هناك مشكلة أو مشكلات.. عقبة أو عقبات..لا أدري.. شيء خفي لم يكتشف بعد.. أو اكتشف وغاب العلاج.. شيء محير فعلاً.. أعرف أن البعض سيأسف على ضياع وقته مع هذا المقال.. كما أسفت أنا بعد كتابته فأردت ألا أكون بمفردي.. منذ سبعينيات القرن الميلادي الماضي سود الكتاب صفحات الجرائد والمجلات بآلاف المقالات.. نعم آلاف.. نقداً واقتراحات وآراء.. والكل يُجمع أن الحالة غير مرضية وأن الأمر يحتاج إلى علاج.. فيجتهد من في يده القرار بالبحث عن الأطباء المهرة ويتم تكليفهم.. فيكون العجب.. واقع المريض يزداد تردياً (صوتاً وصورة وكلمة).. فتبرز الأسئلة (تُناطح) بعضها.. فتختفي الإجابات.. وكانت عشرات الأطروحات لنيل شهادة الدكتوراة ومن ضمنها أطروحة أخيكم كاتب هذا المقال قبل (35) عاماً وعشرات الرسائل في الماجستير.. كلها تبحث بكل أنواع المناهج العلمية.. و تفصل وتنظر وتقترح.. فيموت بعض أصحابها بحكم مدى العمر ويتقاعد الآخر والواقع لا يتزحزح ولا يتغير.. ثابت في جذوره وفروعه وما ينتج عنه.. دراسات كثيرة حُبّرت بشأن واقعه فكان الحبر خسارة فيها.. منها ست عشرة دراسة تحمس أخوكم في تسطيرها أيام الشباب فزاحمتني في المكتب ورميتها.. وفي أرشيف المجلس الأعلى للإعلام وكنت أحد أعضائه قبل أن يتوقف عشرات الدراسات والقرارات والتوصيات.. أجزم لو طُبِّق منها (10%) لأصبح مريضنا معافى يناطح السحاب بأكتافه.. لكنها للأسف لا تزال رغم مرور السنين تربض في الأرشيف يعلوها الغبار إن كان لا زال في ورقها بقية.. إذن المشكلة ليست في النظرية.. والمشكلة ليست في معرفة الحل.. النظرية والحلول متوافرة بحجم مساحة الزمن منذ ذلك الوقت في القرن الميلادي الماضي إلى وقتنا الحاضر.. المشكلة تكمن في مكان ما.. معلومة الظاهر مستعصية على الحل.. وكنت قد ذكرت شيئاً من هذا في ردي على مقالة معالي الأخ يوسف العثيمين عن واقع إعلامنا المنشور في جريدة عكاظ قبل شهور.. فعلاً الأمر محير.. ومع أن أداة الاستفهام (لماذا) هي الحاضر الدائم في المكتوب والمنطوق.. على الورق وفي الأحاديث إلا أن الإجابات لم تكتمل بعد.. إما غائمة أو مترددة.. أو ضعيفة الأمل أو عاجزة.. لكنها في النهاية ليست مستحيلة أبداً.. حتماً ستكون حاضرة يوماً من الأيام.. إن المتابع لمسيرة المملكة في ركضها الدائب على سلم الصعود نحو القمم يدرك بدون شك أن من تخلَّف من مكوناتها سيلحق.. آجلاً أو عاجلاً.. طبعاً كايُفترض، وكما هي طبيعة مهماته أن يكون الإعلام هو السباق.. بل كان يفترض أن يكون هو حصان عربة التطور والبناء والتغيير في المملكة.. فالإعلام الواعي أهم وسائل مكونات التنمية والبناء.. وكذا صناعة المواقف وبلورة الاتجاهات.. إلا أن إعلامنا على الرغم مما قام به من نشاط في حدود قدرته لم يكن للأسف على مستوى الحركة والقفزات التي شهدتها ساحة المملكة في نواحي الحياة المختلفة.. الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والبُنى التحتية ومكونات أخرى عديدة مما جعل من المملكة دولة عصرية الحضارة تقف في مصاف كثير من الدول المقدمة في العالم.. هو لا غير الإعلام (المأنوس) لم يكن لا في المقدمة ولا في المؤخرة.. كان موجود اً في الساحة.. حاضراً بكل مستلزمات التقنية الحديثة يدور في مثاني الكلمة ولعلعة الصوت وانبهار الصورة حول ذاته.. كل مقومات التنمية والحضارة المادية تركض في ساحة المملكة نحو السماء.. والإعلام بكل وسائله يركض دائرياً في مساحة أقدامه.. لم يستفد لا من الدراسات ولا نقد المقالات ولا الرسائل والأطروحات.. فيقفز السؤال كالسكين (لماذا؟).. وأذكر في زيارة لي للأمير خالد الفيصل عندما كان وزيراً للتربية والتعليم أن حديثاً دار عن واقع التعليم العام وسبل تطويره ليلبي حاجة الحاضر والمستقبل لدولة طموحة تسابق الزمن.. وكان الأمير متحمساً لذلك كثيراً.. وأذكر أني قلت إن (المعلم) هو الأهم والركيزة الأساس في المنظومة التعليمية.. ومع أهمية المدرسة ومكوناتها والكتاب وجودته إلا أنها لا تعني شيئاً بدون المعلم الكفؤ.. وسعدت كثيراً حينما ذكر سموه بأن لدى الوزارة خطة للارتقاء بمستوى المعلم تقوم على ابتعاث أعداد كبيرة من المعلمين لتأهيلهم في العملية التعليمية.. وكلما عادت دفعة منهم ابتعثت دفعة أخرى.. ولا أظن أن تلك الخطة رأت النور فقد غادر الفيصل الوزارة ولم أعد أسمع عنها شيئاً.. ولعل في هذا الملمح إشارة إلى التأكيد على أن (الإنسان) هو مكمن المشكلة.. كما أنه هو صاحب الحل.. قد يكون ذلك صحيحاً.. ولكن ليس هو وحده وإن كان هو من يتحمل العبء الأكبر من مسؤولية الواقع الإعلامي.. والغريب أن وزارة الإعلام عبر تاريخها فيما أعرف لم تقم بأي جهد يذكر لتأهيل كوادر إعلامية متمكنة تدير وتعمل في الوسائل الإعلامية.. ومرة أخرى تبرز (لماذا) وتختفي الإجابة.. وقد حاولت القيادة كثيراً من خلال اختيار القيادات الإعلامية والدعم المادي للتطويولارتقاء بالأداء الإعلامي إلى مستوى ما هي عليه المملكة من مكانة وما تتطلع أن تكون عليه في الأفق البعيد.. وإذا تجاوزنا الإنسان هناك إشكالات أخرى تكمن في المفهوم الإعلامي ونوع الرسالة وأسلوب الإدارة والعادة ومساحة حركة المضمون وبيروقراطية التعامل وتعدد المفتين الإعلاميين والموجهين للمضمون الإعلامي.. إضافة إلى أن الساحة الإعلامية مباحة فكل يدعي الخبرة والمعرفة فيها والدراية.. ولذا فهي تدار من المعني فيها ومن غير المعني فيها مما تسبب في تعدد الأيدي الصانعة لمنتجاتها وبهذا فكثيراً ما تأتي الطبخة محروقة.. هذه الإشكاليات وغيرها من البيروقراطية والموارد المالية كانت ولا تزال تمثل العوائق في سبيل أن يكون إعلامنا في مستوى ما تستحقه المملكة من إعلام مهني قوي في الداخل والخارج يقوم بأدواره في البناء والتنمية والتغيير وبناء التوجهات وبلورة المواقف على أساس من المعرفة المهنية وليس الخطابة الدعائية التي أكدت الدراسات عدم جدواها.. ثم يقفز السؤال الآخر يثير التعب (كيف؟): وأدرك أن إجابة هذا السؤال ليست بالأمر الهين ولكنها ليست مستعصية.. فإذا عرفنا الإشكاليات (المعوقات).. تماماً عرفنا الحلول.. وأذكر عندما كنت عضواً في المجلس الأعلى للإعلام أن فريقاً من الخبراء المتخصصين والمهنيين ومفكرين درس آنذاك واقع الإعلام وشخص مشكلاته ووضع أسساً ومناهج ليكون إعلامنا متميزاً.. إلا أني للأسف لا أدري إلى أين انتهى ما توصل إليه ذلك الفريق ولكن يقيناً أن توصياته لم تر النور.. وأعتقد أنه بالإمكان تكرار التجربة فيما إذا أحسن الاختيار على أن ترى توصياتهم النور.. أما الجانب التنظيمي فأمر آخر لكنه الجانب الأسهل ولعل البداية تكون بوضع سياسة إعلامية على غرار تلك التي وضعها المجلس الأعلى للإعلام ولكن على أسس حديثة وفقاً للمتغيرات ولما استجد في ساحات الاتصال.. وأن تتضمن آليات تنفيذية تكون هي المقود للعمل الإعلامي والاتصالي في عمومه والإطار الذي يحكم مساره ويحتكم إليه لا غير.. ثم يتم وضع الحلول الأخرى للمعوقات بما يشبه إعادة بناء للمنظومة الإعلامية كاملة.. بدءًا من الإنسان مروراً بالمعوقات الأخرى مما ذكرنا هنا أو مما جسدته الدراسات والبحوث وفرق التشخيص على مدى سنوات.. فالمعوقات معروفة والحلول هي الأخرى معروفة.. فقط تحتاج إلى عزم وحزم واتخاذ القرار بتكوين فريق عمل إعادة بناء للإعلام وتحديد مسارات واضحة تأخذ بإلاما إلى مستوى يتساوى مع ما وصلت إليه المملكة من نهضة وما حققته في ميادين التطور والبناء في كافة المكونات الأساسية للدولة الحديثة.. والسلام.
** **
- د. ساعد خضر العرابي الحارثي