د. محمد عبدالله العوين
في كل موسم صيف كهذا يبدأ البعوض في التكاثر السريع والانتشار المريع؛ وبخاصة في الحدائق والمتنزهات والمزارع والأدوية، ومهما بالغنا في مقاومته وقتله بالأدخنة والبخاخات والمضارب والسوائل الكهربائية إلا أنه يصمد في هذه الحرب الشرسة ويقاوم ويختبئ ويستكين ثم يتسلَّل ثانية ويبدأ في الهجوم والانتقام.
لا أعلم سر عشقه لدمي من بين أفراد الأسرة، أهو حب أم كره؟ فإذا كان حباً فإن من الحب ما قتل، وإذا كانت الثانية فإنني لا أجد مسوغاً حقيقياً لأن تشتعل هذه المعركة معه كل ليلة، فأنا من النوع المسالم الذي لا أبدأ بالاعتداء ولا بالمناكفة أو الخصام لا مع البشر ولا مع الكائنات الأخرى، بل أدعو إلى التعايش بين الجميع إن تم ضمان السلامة من اعتداء الحيوانات أو الحشرات على البشر.
كنت وما زلت متعاطفاً مع (الحيوان) وأدعو إلى عدم قتله ما أمكن، سواء كان برياً أو مستأنساً، لست من هواة ولا من مشجعي القنص، سواء كانت صيد أرانب لطيفة عفيفة خفيفة مسالمة مرعوبة دائماً تبحث عن مأمن لها ولأطفالها، أو طيوراً كالحجل أو العصافير ونحوهما، أو الغزلان والضباء والوعول، وكان والدي - رحمه الله وغفر له وعفا عنه - من عشَّاق القنص ومطاردة كل كائن حيواني يتحرَّك في البراري والصحاري والقفار ما قرب منها وما بعد، يطاردها في الجبال والأودية، ويختبئ بين الصخور في أعالي القمم النهار الطويل مترصداً لها في الفارعة ونعم ومطعم من شعبان حوطة بني تميم، وحين يذهب في رحلته السنوية للقنص مع صحبه ويغيب عنا شهرين ونصف الشهر ثم يأتي بعد أن تحول الشهر لفراقه إلى سنة يقص علينا القصص الطويلة المرعبة من قصص مطاردة الغزلان في الربع الخالي جنوباً أو في صحاري الشمال الشرقي من بلادنا بالقرب من الحدود العراقية والأردنية، وحين شببت عن الطوق وخط شاربي أراد أن يحبب إلى هذه الهواية فأخذني ذات ليلة من ليالي الصيف غير المقمرة في رحلة قنص مع أصحابه ممن يعشقون مطاردة الأرانب، وأعطاني بندقية شوزن أم خمس وقال لي: خلك على الباب معك البندق وأخوك عبد الرحمن يسوق والله الله لا تجونا إلا ومعكم الحذية! أي ما تهدونه إلينا لنتعشى عليه.
وبدأنا أنا وأخي رحلة البحث في صحاري وأودية العقيمي أحد شعبان الحوطة عن الأرانب المسكينة، أخي - رحمه الله - يفتح عينيه قدر ما يستطيع ويلتفت يمنة ويسرع ويرفع نور السيارة ويخفضه بحثاً عن الغنيمة وأنا أتسلى بمؤشر الراديو من محطة إلى محطة، ومن خبر إلى أغنية وكأنني لست معه، أو كأنه موكل بمهمة القتل وحده، وفجأة أطلق تلك الصيحة المدوّية التي كادت تخرق طبلة أذني وأنا أهيم مع أغنية وردة الجزائرية التي وجدتها صدفة في إحدى الإذاعات تصدح بأغنية (أوقاتي بتحلو تحلو معاك)
... يتبع