د.فوزية أبو خالد
قبل أن تشل حواس العالم أخبار الغيلة العنصرية البشعة واندلاعها الخطرة في خضم هذه الجائحة المقلقة باحتمالاتها المؤلمة وأمدها غير المنظور كتبت مقال هذا اليوم الذي كدتُ أن أعدل عنه لولا أن به من شجن الأسئلة ومن مواجع وفواجع الحالة العامة ما يجعله جزءاً من مشهد مقاومة الجائحة عالميا وزيت الكارثة الأمريكية التي صُبت على نارها. فلا شك عندي أنه بمثل ما انتقلت المظاهرات الحانقة والمطالبة بدم المواطن الأمريكي جورج فلويد الذي قتل بدم بارد على الرصيف من ولاية أمريكية لأخرى ومنها لعواصم ومدن أوروبية، فإن فيروس الأسئلة في المسائل الشائكة وخاصة عندما تتماس مع قضايا الضمير والرأي العام والحال الكوني لا تقل انتشارا واستحقاقاً للتفكر. وإن كان لا بدّ من التنويه أن عنوان المقال قد لا يكون موفقاً وقد لا يدل على موضوعه إلا على وجه المجاز.
*****
سؤال الجائحة
يتردد في رأسي وبين جوانحي منذ بدء الجائحة سؤال أراه أحياناً سؤالاً ساذجاً، وأحسه أحياناً سؤالاً طفولياً وأرجح في بعض الأحيان أنه سؤال صعب على بديهيته. وهو سؤال لا يأتي في الغالب وحده، وإن كنتُ هنا سأحاول إعطاءه صيغة مبسطة هنا ما استطعت. والسؤال هو هل هناك حبر أو بحر أو عمر أو ضوء يكفي اليوم لبحث ما يعتلج في صدورنا من مشاعر معقدة وما يمر أمامنا من أحداث مركبة وراكضة تتمثل في هذه الجائحة وفيما يجري بموازاتها وفي خضمها من مواجهات؟
*****
تعدد قراءاتها
لاحظتُ من بداية الجائحة تعدد زوايا قراءاتها بتعدد زوايا النظر وبتعدد التخصص العلمي وبتعدد الخلفية الثقافية، بل وبتعدد الأيدولوجيات والمعتقد وكذلك بتعدد الإطار المعرفي والفكري من الفلسفة إلى الخرافة ومن المنهج العلمي إلى الشعر والأدب إلا أن جل تلك الطروحات لا زالت لا تشفي الغليل بما يكفي فداحة الجائحة ولا المصاحبات المستقلة عنها أو المصاحبة لها.
ومع ذلك لا يمضي يوم منذ دخلتُ فيه معتزلي الشخصي باختياري، حيث لم يجري بنيويورك حجر إجباري دون أن أقضي أطراف من نهاره وهزيع طويل من ليله في الانغماس بالقراءة والمشاهدة والمتابعة بشغف من سيعثر في الهشيم على شرارة وفي الحلكة على بارقة وفي الظمأ على قطرة ماء أو رشفة سراب.
*****
انشغالاتي الشخصية بأعراضها
- أريد البحث عن كيفية الخروج على سلطة الجائحة بشعبية الأمل على وجه التحديد وليس بوسائل أخرى.
- أريد البحث عن كيفية التخفف من وطأة العزلة ووحشة الحجر بأنس الأمل وليس بأيّ سحر آخر.
- أروم البحث عن شفاء لمصابي كورونا ببلسم الأمل وليس بأي عقاقير أخرى.
- أريد أن أقرأ سورة الفاتحة على أرواح شهداء هذا الوباء في وطني وفي العالم الإسلامي وأينما وجد مسلمين، كما أريد أن أقف لحظة حداد باستحقاق على كل روح رحلت عن هذه الأرض على جنح هذه الجائحة الموجعة وحيدة دون تلويحة وداع ولا موكب جنازة.
- أريد أن أمد يدي لأصافح من أعماقي في الهواء كل من اكتوى بلوعة الفقد لقريب وحبيب وصديق جراء الجائحة. فهناك عبر القارات أمهات وآباء وأطفال وبشر بمختلف القرابات عصفت الجائحة بأرواحهم وسلبت منهم على حين غرة أحبة وأصدقاء, دون قبلة وداع أو لقاء أخير.
- أريد البحث في الفروق الجارحة بين مكارم الحجر وبين مكاره المعتقلات بين رحمة الحَجر وبين قسوة الإعاقة المقْعِدة بين عذوبة العزلة وبين عذاب النبذ أي كانت أنواعه عرقي أو إثني أو سواه من أسباب التنابذ.
- أريد البحث في كيفية أستطيع بها الوصول إلى العاملين في الصف الأول الواقفين على جبهة مواجهة الجائحة عبر القارات وفي كل بلد وفي كل مدينة وفي كل قرية وفي كل حي وشارع من خارطة الأرض لأقبل أيديهم بطلة بطلة وبطلاً بطلاً. أريد أن أقبل أيدي عمال النظافة وأشم رائحة اللقمة النظيفة من قفزاتهم المعروقة. أريد أن أقبل أيدي من يزرعون ومن يحلبون ومن يعلبون ومن يوصلون لكل بيت حاجاته الأساسية اليومية. أريد أن أقبل أيدي أصحاب المواصلات في هذه الظروف غير المأمونة، أريد تقبيل أيدي الصيادلة والصيدلانيات, وأيدي الممرضات والممرضين والمعتكفين في المختبرات وفي غرف الأشعة. أريد أن ألثم أيدي الأطباء والطبيبات ممن تركوا أطفالهم وأسرهم وفراشهم في أجواء باردة أو حارة وتحملوا اللثام يكتم أنفاسهم لساعات لا تحصى إنقاذاً لأرواح لا يعرفون أصحابها.
أريد تقبيل أيدي جنود المرور ببساطتهم المتناهية وإخلاصهم المنقطع النظير وعمال الأمن والمرابطين على الحد الجنوبي وكل الساهرين لننام بسلام. وعلى وجه الخصوص قبلة للأمهات القلة على مد البصر اللواتي لم يتخلين قط وفي هذا الظرف بالذات عن مهام الأمومة الشاقة والشفيفة لا لعاملات ولا لجدات وخضن عزلة الجائجة مع أطفال صغار بصبر باسل.
- ومن بعد ومن قبل أريد تأمل هذه اللحظة التاريخية التي استطاع فيها فيروس صغير مجهول أن يشل العالم ليس فقط من باب الإقرار بهشاشتنا البشرية وليس من باب المساءلة السياسية لأسبابه وأشكال التعامل معه، بل من باب الفضول المعرفي الغر المولع بطرح الأسئلة بعيداً عن جاهزية الإجابات أو مهادنة منطق الأشياء.
*****
ماذا يحدث في أمريكا؟
- وليس أخيراً أريد أن أبحث وأبحث وأبحث نهاية لوحشية البشر تجاه بعضهم البعض بشكل عشوائي أحياناً وبأشكال منظمة مدججة بالأنظمة والجيوش والقتلة المحترفين في معظم الأحيان. فها هو جويل سايمون الناطق الرسمي والمدير التنفيذي لهيئة حماية الصحفيين بأمريكا يعلن عن صدمته من استخدام البوليس الأمريكي التكتيك الحربي؛ نعم تكتيك الحروب لفض المظاهرات السلمية بما فيهم ضرب واعتقال صحفيين من مختلف المشارب ومؤسسات الإعلام أثناء أداء واجبهم المهني لتجري العودة لقانون الغاب دون مقاومة ودون شهود.
- من لحظة غيلة جورج فلويد إلى الآن أشعر بحرقة المطعون في مقتل فذبح فلويد حياً على الرصيف ليلفظ أنفاسه الأخيرة أمام الكاميرات جرح لا يخاط ولا يضمد ولا ينبغي له أن يجف أو يحنط أو يرمم ليبقى نازفاً مخجلاً على جبين العمران البشري وحضارة القرن الواحد والعشرين، لحين نبحث عن شفاء لإنسانيتنا من الظلم العنصري الفاضح وكل مشتقاته البشعة السياسية والعسكرية والعرقية والإثنية من أمريكا الشمالية إلى كوريا الشمالية وسواهما من أوكار الهيمنة.
- بعض برامج التعليم عن بعد في بعض الولايات الأمريكية ومنها نيويورك فرغ يوم الجمعة الماضي وبعد اندلاع الكارثة العنصرية في مدينة مينابولس بولاية مينيسوتا لإدانة العنصرية ولإعادة إحياء الوعي المضاد لها بعد تآكله مع تزايد سياسيات العنصرية والشعبوية في المجتمع الأمريكي.