خالد المشاري
حينما تفقد والداً أو والدة أو ابناً أو ابنة أو أخاً أو أختاً، فإنك تعيش أجواءً مليئة بالأحزان، وتستعيد شريط الذكريات مع من آلمك فقده ورحيله المؤلم، خاصة إذا كان الرحيل خاطفاً وسريعاً مثل ما حدث مع الفتاة الشابة منيرة بنت إبراهيم بن سالم المشاري ذات الـ 26 عاماً التي رحلت فجر الخميس 5 شوال 1441هـ وكان رحيلها فاجعة لم يستوعبها محبوها من والدين وأشقاء وشقيقات وأقارب، لسرعة سيناريو اللحظات الحزينة التي سبقت رحيلها الحزين في تلك الليلة الحزينة والمخيفة بكل لحظاتها، فالعبارات التي تسمعها من الأطباء تُحطم القلوب وتقتلع جذور التفاؤل والأمل بعودة نبض قلب أو شفاء مريض!
لا أحد يشك أن للموت وقتاً محدداً باليوم والساعة، فلا يستأذن أحداً، ولا ينجو منه لا صغير ولا كبير، لا صحيح ولا سقيم، إنه هادم اللذات ومفرق الجماعات، فلا يستطيع أحد أن يتجاوز الأجل الذي كتبه الله، وقد قدَّر الله آجال العباد، وجرى بذلك القلم في اللوح المحفوظ، وكتبتْه الملائكة الكرام -والمرءُ في بطن أمه- فلا يتأخَّر المرء عمَّا كُتِب له ولا يتقدَّم، وكل إنسان باغته الموت، أو قُتِل، أو غَرِق، أو احترق، أو غير ذلك من الأسباب، فإنه قد مات بأجله الذي قدَّره الله وأمضاه.
فكل إنسان له أجل محدود، ورزق معلوم، لا يستطيع أن يتجاوزه بحال من الأحوال لأنه قُدِّر عليه قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وجرى بذلك القلم في اللوح المحفوظ، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشُه على الماء).. ويقول الله -تعالى-: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون: 11].
الشابة الغالية منيرة البراهيم المشاري رحلت فجأة، وتركت خلفها إرثاً من الطيب والخلق الرفيع والعلم حيث حصلت على شهادة الماجستير في اللغة الإنجليزية، كما أنها روائية وأديبة، وألفت كتابين وسعت جاهدة لإصدار كتابها الثالث ضمن سلسلة إصدارتها وإبداعاتها الأدبية، لكن القدر لم يمهلها، والأجل كان أسرع، كانت متميزة في الكثير من شئون الحياة، تتعامل مع من حولها برقي، أحبت الناس فأحبوها، عطفت على الأطفال وتعلقت بهم، فتعلقوا بها لطيب قلبها، وحسن معاملتها لهم، فكانت مصدراً لسعادتهم بقلبها الحنون الذي توقف فجأة فجر الخميس الماضي مسلمة روحها لبارئها لتغادر الحياة الدنيا ويعم الأسى والحزن وجوه محبيها.
صبرًا أبا مشاري.. وصبرًا أم مشاري، فالدنيا فانية، وهذا مصيرنا جميعاً، الموت كأس وكل الناس شاربه والقبر باب وكل الناس داخله، الموت له هَيْبَة تخضع لها الرؤوس، وتنحني لها الظُّهور، وله رهبة تخشع لها النُّفوس، وتَرجُف من أجلها القُلوب.
الموت يَمضِي في طَريقه ولا يتوقَّف ولا يلتفت، لا يستجيب لصَرخة مَلهُوف، ولا لحسْرة مُفارق، ولا لرغبة راغب، ولا لخوف خائف، ولا للوعة أم، أو شَفقة أب.
الموت قَضاء نافِذ، وحُكم شامل، وأمر حاتم لازم، لا تمنع منه حَصانة القِلاع، ولا يَحُول دُونه حِجاب.
أبا مشاري وأم مشاري.. نحن معكما بقلوبنا ومشاعرنا، أشاطركما الأحزان، مصيبتكما هي مصيبتنا، وفراق ابنتكما منيرة المشاري آلمنا وأحزننا كما أحزنكما..
أبا مشاري وأم مشاري.. لا أحد يشك أن فقدان أيّ عزيز على القلب يعتبر مصدر حزن كبيرا وألما لا يماثله ألم، فما بالك بفقدان أحد الأبناء أو البنات، وهذا ما يجعل الأب والأم أسيرين لعاطفة الحزن لفترات طويلة لشعورهما بمرارة الفقد، وأنه لا أمل بعودة ابن أو ابنة فارقت هذه الدنيا الفانية، حينها نبتهل إلى مولانا وخالقنا ألا يجعل الحياة الدنيا آخر عهدنا بفلذات أكبادنا، وأن يجمعنا بهم في جنات النعيم، ويرزقنا شفاعتهم ويجعلنا وإياهم على سرر متقابلين في الفردوس الأعلى من الجنة، وهنيئاً لكما على صبركما ورضاكما بالقدر، فالرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون نعم، فيقولون قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد.
أسأل المولى -عزّ وجلّ- أن يرزقكم الصبر على هول الفاجعة، ويربط على قلوبكم، وأن يبدّل حزنكما فرحاً وسروراً، وأن يمطر على قبر ابنتكما من سحائب رحمته، وأن يجعل أياديها تقطف من ثمار جنته، وأن يجعل قبرها روضة من رياض جنته، والحمد لله على قضائه وقدره ولا نملك سوى قول: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.