خالد بن حمد المالك
توفي عبدالله بن محمد العقل بعد معاناة طويلة مع المرض، لكنه مات بصمت، بهدوء، وبمثل ما كان عليه في حياته، هادئاً، صامتاً، ولا يتحدث إلا حين يستدعيه الموقف، أو تناديه فكرة، أو يخطر على باله رأي، أو يريد أن يعبِّر عن وجهة نظر تلح عليه، ذلك ما أعرف عنه، إلى جانب أنه طيب المعشر، على خلق، وذو سمات جاذبة، تشجع الآخر على احترامه وتقديره ومحبته.
* *
مات في زمن عزلة الناس، وبعدهم عن بعض، وتواري أقرب الناس عن أحبائهم، بسبب جائحة (كورونا) فغاب عن الصلاة عليه، وعلى المشاركة في دفنه، وعلى الحضور إلى منزله لتقديم العزاء، حشد كبير من محبيه وزملائه وأصدقائه، غير أنه سيبقى في الذاكرة، الرجل الأنيس الونيس، ذا المكارم والأخلاق والرجولة، وستبقى خدماته للآخرين محل تقدير.
* *
كان المرحوم وكيلاً للرئيس العام لتعليم البنات على مدى سنوات طويلة قبل أن تنضم الرئاسة إلى وزارة التعليم - المعارف سابقاً - فكان واحداً من المؤسسين للرئاسة العامة لتعليم البنات في بدء قيامها، فأبلى فيها جهداً لا يُنسى، وقدَّم لها من عصارة فكره، وعمله ما جعله يتدرَّج في سلم الوظيفة إلى أن عُيِّن وكيلاً للرئيس العام، لكنه في وظائفه المتعدِّدة، لم ينشغل عن المشاركة ضمن كوكبة من المتخصصين في تأليف الكتب الدراسية للتعليم العام، فشارك في مجال تخصصه في خدمة التعليم بأكثر مما تتطلبه الوظيفة الرسمية.
* *
في عمله وكيلاً للرئيس بالرئاسة العامة لتعليم البنات، جاء إليه -حسب ما رُوي لي- من يرغب أن تواصل زوجته (المعلمة) تعليمها العالي، كأول طلب من هذا النوع، ولم يكن هناك من تجربة سابقة، أو موافقة مسبقة تماثل هذا الطلب، فاضطر إلى أن يطلب من المستشارين والقانونيين في رئاسة تعليم البنات تبريراً لسلامة إعطاء الموافقة، وتشجيع هذه المعلمة على مواصلة تعليمها، لما في هذا من فائدة للتعليم، فصُدم -رحمه الله- حين جاءت الإجابة بأنه لا يوجد في النظام ما يسمح لها بأن تتفرَّغ لمواصلة تعليمها.
* *
يقول لي صاحب هذه التجربة مع عبدالله العقل، إنه حين راجعه لمعرفة ما تم التوصل إليه بشأن طلب زوجته، أفاده بأن المستشارين والقانونيين لا يرون الموافقة على الطلب لعدم وجود نص يسمح لها بذلك، وأنه -أي عبدالله العقل- سألهم: وهل هناك نص آخر يمنع إعطاء الموافقة لتواصل تعليمها؟ فأجابوه بأنه أيضاً لا يوجد ما يمنع، أي أن النظام يخلو من السماح ومن عدم السماح، كما لا توجد سابقة في ذلك، وأنه - أي المرحوم- أخذ على مسؤوليته الشخصية إصدار قرار بالموافقة، وحجته في ذلك ما دام النظام لم ينص على منع مواصلة المعلمة تعليمها، فعلينا أن نجتهد ونسمح لها بذلك، وهو ما تحقق حتى أنهت تعليمها بحصولها على شهادة الماجستير ثم الدكتوراه.
* *
بهذا القرار من هذا الإداري الذي اجتهد في تفسير النظام، وتجنب البحث عن تعقيدات تحول دون تحقيق هذا الحلم الجميل لمعلمة طموحة تريد مواصلة تعليمها، أصبحت قاعدة، سُمح بعدها لمن يرغبن في أن يكملن تعليمهن من منسوبات الرئاسة العامة لتعليم البنات، بحسب التخصص، والحاجة، وضمن شروط ميسَّرة، بعيداً عن التعامل الإداري البيروقراطي القاتل، مما يسجّل له ضمن إنجازات أخرى كثيرة خدم بها التعليم بكل جدية وإخلاص.
* *
لم يكن عبدالله العقل له حضور مميز في وسائل الإعلام، إذ إن أعماله كانت تتم بهدوء، تناغماً مع شخصيته وطبيعته، لكنه كان صاحب أسلوب جذاب في مقالات إصلاحية محدودة نشرت له في بعض الصحف في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الهجري الماضي، وصاحب مواقف تذكر له فيشكر في مساعدة الآخرين، وتحقيق طموحاتهم، بما لا يخل بمتطلبات الوظيفة، ومسؤوليات العمل، فله منا، وقد اختاره الله إلى جواره الدعاء بالرحمة والمغفرة، سائلين الله أن يكون منزله في رحاب جنته، بين المبشَّرين بها، واللَّهم ألهم أهله وذويه وأسرته ومحبيه الصبر في فقد أخينا الرجل الفاضل عبدالله العقل -رحمه الله- و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.