د. حسن بن فهد الهويمل
قيل من قبل: (الفاضي يعمل قاضياً) و(نازلة الوباء) حبست الأجساد, والأنفاس, ووسعت هوَّة الفراغ, وضيّقت الخناق على حركة الأعضاء، وفتحت الكوى للتأمل, والتصور، والأحلام، والهلوسات.
مثلي يحبس في مكتبته معارف جمَّة، وتجارب متعدِّدة جاثمة بين صفحات الكتب, لأناس تضلعوا من المعارف, ومروا بتجارب الخوف، والجوع، والأوبئة, والحروب.
ومن السهل استدعاؤها، والاطلاع عليها، والإضافة إليها.
هكذا تنمو الحضارات، لبنات بعضها فوق بعض، مُشَكِّلةً قصراً مشِيداً يسر الناظرين.
المهم أن تشحذ النوازلُ الأذهانَ، وتذكي الحماس، وتشد الانتباه، وتحدوا إلى التحيّز, أو التحرّف.
مفكرو اليوم, وعلماؤه محصلة قراءات سابقة، وتجارب قائمة، وكل أسد في النهاية مجموعة خراف مهضومة:
(مَا تُرانا نَقُولُ إِلَّا مُعاراً...
أو مُعاداً من قَوْلِنَا مَكْرورا)
و: (هَلْ غَادرَ الشَّعراءُ من مُتَرَدَّمِ..؟)
ذلك قول شعراء الجاهلية الأولى, كل شيء رَدَمَه الشعراء, أي أصلحوه قبل مجيء (عنترة) الشاعر الجاهلي.
و(ابن حُذَام) شاعرٌ قديم, عرفه (امرؤ القيس)، وتتبع خطاه، ولم نعرفه, لأنه قبل التاريخ.
وإذا كان (أبو العلاء المعري) رهين المحبسين: بَيْتِهِ، وعَمَاه. قد أبدع (السِّقْطَ) و(اللزوميات) وكتباً غيَّرت مجرى الفكر, وسارت بها الركبان, فإن محبساً واحداً شمل العالم كله, لا بد أن ينتج الشيء الكثير.
ربما نستعيد مصطلح (ما بعد) ومن ثم سيتحول التفكير, والتعبير, والتصور, وسيشكل هذا الوباء منعطفاً مهماً في خطاب الأمة. وكل نازلة مهمة تحدث مسارات جديدة.
حملاتٌ, وحروبٌ, وأوبئةٌ حبست الأجسامَ, والأنفاسَ, ثم انقشعت فخلع الناس ألْبِسةً, وارتدوا أخرى, وعَدَلُوا عن نمطياتهم, ورتابة حياتهم.
ما يتمناه العقلاء الناصحون المجرِّبون التغيير إلى الأفضل, لأن هذه النوازل للاعتبار, ومراجعة النفس, وتغيير ما فيها.
فالحياة مع تعاقب أجيالها تحمل على التحريف المُضِلِّ, والتأويل الفاسد, والابتعاد عن السبيل السوي.
والحكمة الربانية, تقتضي:
- إما بعث المجددين المصلحين على رأس كل قرن, بحيث ينفون تحريف الغالين, وانتحال المبطلين, وتأويل الجاهلين.
- أو الابتلاء بشيء من الخوف, والجوع, ونقص من الأموال, والأنفس, والثمرات.
لقد تعاقب المصلحون, والمجدِّدون, وخلَّفوا لنا ثروات علمية, وفكرية لا تقدَّر بثمن. ونحن الآن نعيش تحت طائلة وباء عَمَّ العالم, وأضَرَّ بكل شيء, وقد يحدث بعد ذلك أمرا.
هذه الأجواء حملت الوجلين على التساؤل:
- من نحن؟
- وما الحياة؟
من العقوبات العاجلة المؤلمة, عقوبة النسيان, المتمثلة بنسيان الإنسان نفسه: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}.
والنوازل نوع من العصف الذهني, بحيث يذكر الإنسان خالقه, ويتعرَّف على نفسه.
قد يغرق الإنسان في الشهوات, والأهواء, والنزوات, والترف, ويطول أمله, ويلهيه, ثم يعاقبه الله بنفسه, أو بماله, أو بولده. ويعيد إليه بهذا الصعق ذاكرته, ويهديه سواء السبيل, وقد لا تغني الآيات, والنذر.
(الحياة), و(الأنا) مجرد لقاء بين شيئين مختلفين = مادة + روح, وناتج هذه العلاقة المجهولة التصور هو (الأنا) و(الحياة), وعند الافتراق يزول (الأنا), وتنتهي الحياة.
القرآن حسم الإجابة على سؤال: ما الحياة؟: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون}.
والأمانة التي عُرِضَتْ على السماوات, والأرض, والجبال, هي أمانة التكليف. والتكليف مسؤولية, وأداء.
وسؤالي قد يتجاوز مقاصد الخلق, وأمانة التكليف إلى ذات الحياة, بوصفها ظاهرة. ما هي؟ وكيف نتصورها؟
هذه الحياة لمن؟
- أهي للطفولة, ومراهقة العشرين؟
- أم هي لمن بلغ أشده, وبلغ أربعين؟
- أم هي لمن بلغ القمة, وبدأ بالانحدار؟
- أم هي لمن استقر في السفح؟
إنها لمن يحسن إدارة المراحل العمرية, هي لمن يبتغي بين ذلك سبيلا, هي لمن يصلي صلاة مودع, هي لمن لا تلهيهم تجارة, ولا بيع عن ذكر الله, وإقام الصلاة.
أما: كيف تعرف ذاتك معرفة وجود, لا معرفة قيم, ومسؤولية؟
أصعب الإجابات تحديد الذات, وأصعب الأحاديث موضعتها.
أنت (مادة) تحولت من التراب, وستتحول إليه, صعوبة التعرّف تكمن في تبدل خلاياك كل لحظة, خلايا تولد, وأخرى تموت بالملايين وأنت تمارس الحلاقة, وتقليم الأظافر, وقد تتعرَّض لعمليات جراحية تُنْزعُ فيها الكلية, أو القلب, أو الكبد, أو المرارة, أو الزائدة, أو اللوز, أو تُبْتَرُ قدماك, أو بعض أعضائك, وكم تنزف من الدماء, وتظل أنت أنت في نظر نفسك, ونظر الآخرين. فأين تكمن ذاتك فيما جَدَّ, أو فيما ذهب. لقد أزيل من ذاتك الشيء الكثير, وأنت, أنت.
- ثم أنت (روح) عاجز عن فهمها, لأنها من أمر الله.
- وأنت (عقل) لا وجود له, إنه مجرد أثر.
الإنسان فيما أتصور (نتيجة) علاقة بين روح, وجسد, تنتهي بالافتراق بينهما.
تلك هي الحياة الدنيا, وذلك هو الأنا. وعند التصور السليم يمضي الوجود الغريب, كما أريد له.
والسؤال الصعب.
- ما الحياة فيما بعد الحياة؟
لقد حُسِمَ الأمر:
(فِيها ما لا عَيْنٌ رَأَتْ, ولا أُذنٌ سمعت, ولا خَطَرَ على قَلِبْ بشر).
ستبدل الغرائز, والشهوات ويكون هناك خلقٌ آخر, كما حياة الملائكة: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون}. وما نقرؤه مسميات لا تطابق بينها.