محمد سليمان العنقري
لا شك في أن تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد المحلي كحال التداعيات عالميًّا من حيث تأثير الإقفال الكبير على قطاع الأعمال، وخصوصًا الأنشطة الأكثر تضررًا، كالتجزئة والمطاعم والسياحة والطيران، التي سيظهر حجم الأضرار عليها لاحقًا، وخصوصًا في احتمال فقدان وظائف؛ وبالتالي ارتفاع نِسَب البطالة؛ ولذلك كانت الدولة سباقة باتخاذ إجراءات دعم وتحفيز عديدة لتحجيم الضرر بأكبر قدر ممكن؛ حتى يتمكن القطاع الخاص المتضرر من العودة، وتكون الأضرار بحدود متدنية. وقد رُصد لهذه المبادرات 180 مليار ريال، كان لها أثر إيجابي كبير، إلا أن الشهور القادمة بعد العودة للحياة الطبيعية ستعطي النتائج النهائية لحال تلك الأنشطة التي تضررت، وما نتج عن ذلك من فقدان للوظائف، إلا أن هذه الجائحة أظهرت الحاجة لتغييرات بواقع سوق العمل؛ وهو ما يسهم في معالجة ملف البطالة وبعض التشوهات التي لم تعد تتناسب مع واقع الاقتصاد الوطني القوي والمتطلع لتنمية مستدامة وفق رؤية 2030م الاستراتيجية.
فالتحدي الذي نجحت المملكة فيه بهذه الظروف هو استخدام التقنية الحديثة في إدارة الأعمال للقطاعين العام والخاص عن بُعد، التي أظهرت الاحتياج العملي لتشغيل الاقتصاد. كما ظهر من هذه الأزمة واقع زيادة العمالة الوافدة عن الاحتياج العملي للاقتصاد، وترسبات ظواهر التستر والعمالة المخالفة، إضافة إلى ضرورة رفع تنافسية المواطن؛ ليكون هو المشغل للعديد من الأعمال الحيوية. فاحتمال مغادرة بعض العمالة ذات المهارات المطلوبة لتشغيل مرافق حيوية نتيجة هذه الأزمة يفتح الباب استباقيًّا أكثر لضرورة وضع خطط عاجلة لإحلال المواطنين المؤهلين أو مَن يمكن تأهيلهم لأعمال القطاع الصحي، والتشغيل والصيانة عمومًا. فكما ظهرت الحاجة لتوفير جزء كبير من الإمدادات الغذائية والأدوية والتجهيزات الطبية من خلال الإنتاج المحلي، وتوطين التقنيات لذلك، فإن هيكلة سوق العمل وإصلاح الخلل فيه من ناحية معالجة الفجوة بالمهن الحرجة والتخصصات النادرة يعدان عاملاً مهمًّا لتحصين الاقتصاد وتعزيز قوته.
ومن المهم إعادة النظر بواقع سوق العمل من خلال تغيير بعض الأنظمة لتوسيع حرية تنقل العمالة الوافدة؛ لتكون العلاقة من خلال عقد العمل، وليس بنظام الكفالة الحالي؛ وهو ما يسهم بتقليل الحاجة للاستقدام؛ وهذا بدوره سيرفع من تنافسية المواطن بسوق العمل مع أهمية تقنين إصدار التأشيرات، وحصرها بالمهن التي لا ينافس عليها المواطن، كالعمالة العادية، أو التي لا تتطلب مؤهلات، ودخلها منخفض، أو لتخصصات نادرة جدًّا. فالفرصة قد تكون مواتية لمثل هذه الهيكلة؛ إذ كشفت هذه الجائحة الكثير من العوامل التي تعتري سوق العمل، ومثلت فرصة ذهبية لتحديد نوعية التغييرات المطلوبة بالسوق؛ وهو ما يسهم في القضاء على ظواهر التستر، والحد من العمالة المخالفة، إضافة لتلبية الاحتياج من السوق المحلي لأصحاب الأعمال، ولكن الأثر المهم سيظهر بأن الفرصة للمواطن ستكون سهلة وكبيرة للحصول على عمل ملائم؛ لأن نمو الاقتصاد وزيادة توليد الوظائف سيتم بهما تلبية هذه الاحتياجات من خلال العمالة الوطنية؛ لأنه لن يكون لها منافس من الخارج، وذلك مع تقنين إصدار التأشيرات، وحصرها بمهن لا ينافس عليها المواطنون، إضافة إلى زيادة وتيرة توجُّه قطاع الأعمال لاستخدام التقنية الحديثة؛ وهو ما يقلل من حاجتهم للعمالة العادية ومتدنية الدخل والتأهيل، والانتقال لاستقطاب العمالة الوطنية، والاعتماد عليها بأعمالها في وظائف دخلها جيد، وتُكسب شاغليها خبرات نافعة للمستقبل من خلال اعتماد الذكاء الاصطناعي بإدارة الأعمال.
الجائحة سارعت من خطوات تغيير طبيعة الأعمال، وحرقت مراحل للوصول لما يطبَّق حاليًا من أسلوب أعمال فرضته الضرورة، الذي سينتقل ليصبح هو واقع الأعمال. ومن الضروري مواكبة هذا الانتقال السريع والواسع لنمط الأعمال، وإدارتها بالمفهوم الجديد؛ إذ سترتفع الإنتاجية، وتنخفض التكاليف، وتتحسن بيئة الأعمال بما يكفل توليد فرص عمل ملائمة للمواطنين، وتخفيض نِسب البطالة، واستيعاب الداخلين الجدد لسوق العمل من خلال التغيير الملائم لأنظمة العمل؛ لتتواكب مع المستقبل ومتطلباته التي فرضتها هذه الجائحة على قطاع الأعمال في العالم.