القلم يجر صاحبه، والكلمات تنادي رفاقها، وطلب الصديق الوفي يعز عليَّ رده، فالصداقة تدعو للإجابة، والوفاء ملزم، فكنت كتبت في هذه الصحيفة الوراقة مقالاً عن حياة الشيخ عبدالرحمن بن ناجي آل عتيق - رحمه الله، ولا يكفي ذلك ففي الجعبة عنه الكثير - رحمه الله، ولكن بعد كتابتي ذلك المقال طلب مني صديق، وأخ عزيز، وشيخ كريم، أن أكتب عن والد أبي، وهو الجد الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن قاضي الرياض العلامة الشيخ سعد بن عتيق - رحمهم الله رحمة الأبرار، وألحقنا بهم وبصالح المؤمنين في جنات النعيم.
فقلت عنه وما يكفي المقول له
وهو الفقيه ومن بالعلم منشغل
شيخ الشريعة والميراث يقسمه
في أقصر الوقت بل في أيسر السبل
حوى العلوم وما زادته غير تقى
لله والزهد في الفاني وفي الحلل
مرت الحياة معه -رحمه الله- كلمح البصر، ولكنه قد ملأ حياته جداً واجتهاداً، وعبادة وزهداً، وسخاءً وكرماً، فقد ولد -رحمه الله- في ذي الحجة عام 1350هـ، ونشأ في قرية العمار، التابعة لمحافظة الأفلاج، والتي تبعد عن قلب المدينة خمسة كيلوات تقريباً، فكانت مسقط رأسه، وهي موطن الأجداد من لدن الجد العلامة الشيخ حمد بن علي بن عتيق، فالأفلاج كانت آخر المدن التي انتقل إليها قاضياً، ولم تكن قرية العمار أُنشئت، فحصل على إنشائها اتفاق بينه وبين الرجل الصالح فهيد بن صالح آل فهيد، كبير أسرة آل فهيد، تلك الأسرة المباركة التي عرفت بالاستقامة والديانة، والبعد عن العداوات التي كانت تسود ذلك الوقت، قبل أن يمنحنا الله بفضله نعمة الأمن ورغد العيش على يد الملك الصالح عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود الذي قال فيه بحق الشاعر ابن عثيمين:
خبيئة الله في ذا الوقت أظهرها
وللمهيمن في تأخيرها شان
فاتفق معه على أن يعمروا ذلك المكان، وينتقلوا إليه، فعمروه واشتهرت تلك القرية شهرة علمية بسبب وجود العلامة الشيخ حمد وأبنائه، وعلى رأسهم ابنه الشيخ سعد قبل أن ينقله الملك عبدالعزيز للرياض لتولي القضاء والتعليم.
فوفد إليها طلاب العلم من كل مكان، حتى من خارج الأفلاج، للتتلمذ على الشيخ حمد بن علي - رحمه الله، ومن أولئك الشيخ عبدالله بن الشيخ عبداللطيف بن الشيخ عبدالرحمن بن حسن، فقد أقام بالعمار، وتتلمذ على الشيخ حمد بن عتيق -رحمهم الله، كما ذكر ذلك الشيخ إسماعيل بن عتيق في كتابه التحقيق في معرفة أبناء الشيخ حمد بن علي بن عتيق(ص19)، بل إن العلامة الشيخ حمد بن عتيق حينما رحل من حوطة بني تميم رحلت معه بعض الأسر، واستوطنوا الأفلاج، وهو الذي أشار على أسرة آل سحمان أن يستقروا في العمار حينما مروا بالأفلاج قادمين من جنوب السعودية، وقد أثنى على أهل الأفلاج، وحفظهم لجناب الجار، فاستقروا معه فيها، وكان من ثمار ذلك أن تتلمذ عليه العلامة وشاعر الدعوة السلفية الشيخ سليمان بن سحمان رحمة الله عليه.
فكانت العمار موطن الأجداد، لذلك نشأ الجد الشيخ سعد حفيد قاضي الرياض فيها، وقرأ فيها القرآن على يد الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن سحمان -رحمه الله، فهو المقرئ في القرية، والكثير تلاميذه بل لم يتعلموا القرآن إلا منه، أجزل الله له المثوبة، ثم حفظ القرآن -رحمه الله- في سن مبكرة، وارتحل لموطن العلماء الرياض، لطلب العلم، فدرس على الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، وأخذ عنه في الفرائض، وقرأ عليه الآجرومية في النحو، وانتقل للدلم للتتلمذ على سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله، حين كان قاضياً فيها، ولما انتقل سماحته للرياض انتقل الشيخ سعد تبعاً له إلى الرياض، ليدرس عليه وعلى غيره من أهل العلم، والتحق بالمعهد العلمي سنة 1371هـ، وكان المعلمون فيه أهل علم وفضل، ثم التحق بعد ذلك بكلية الشريعة سنة 1375هـ، وتخرج فيها سنة 1379هـ، وعُيِّن بعد ذلك معلماً في المعهد العلمي في الأحساء، وبقي فيه أربع سنوات، ثم انتقل للمعهد العلمي في الأفلاج حينما فتح، وبقي فيه إلى أن أحيل للتقاعد عام 1410هـ.
كان رحمه الله منشغلاً بالعلم، زاهداً في الحياة الدنيا، فلم يشغله سوى العلم والعبادة والإنفاق والكرم، كان منزل والدي -حفظه الله- مجاوراً لمنزل الجد -رحمه الله، وقد فتح بين المنزلين باب، لذلك كان الالتصاق به أكثر، والمعرفة به عن قرب.
كم استفدنا من سمته وجده، وانشغاله بالعلم، ولقد رأيته لا ينفك عن القراءة والمطالعة في الكتب إلا لشغل، فأمهات الكتب لا تفارق مجلسه الذي يجلس فيه، ومكان فراشه، بل مكتبته -رحمه الله- هي التي دائماً يجلس فيها ويضيّف فيها إذا كان الضيوف قليلون، وقد كانت مكتبته لا تتجاوز الثمانية خزائن، ولكن لا يوجد بها غير أمهات وأصول الكتب من فنون الشريعة واللغة والأدب والتاريخ والتراجم، ومن يرى مكثه على القراءة يجزم بأنه قد قرأها كلها، فلا يمكن أن يمر عليه يوم بل وقت بلا قراءة، سافرنا معه إلى الرياض لحضور مناسبات، ونسي نظارته التي لا يستطيع القراءة بدونها، فلم يستقر له أمر حتى تم شراء نظارة أخرى له في أسرع وقت، وإذا سافر للرياض فإن ابنيه اللذين يسكنان الرياض وهما العمَّان الشيخ محمد -رحمه الله- والعم إبراهيم -حفظه الله- يتنافسان لاستضافته -جزاهما الله خيراً، إلا أنه يفضل المكث في بيت ابنه العم الشيخ محمد -رحمه الله، ومن أسباب ذلك أن عنده مكتبة ضخمة، فيقضي الأوقات بالاطلاع في الكتب عنده، فقد كان العم الشيخ محمد -رحمه الله- حافظاً لكتاب الله، وفيه من والده من حب الكتب وكثرة الاطلاع الشيء الكثير.
كان الجد -رحمه الله- يفرح بأهل العلم وطلبته أيما فرح، ومن ذلك ما أراه من فرحه باللقيا بالكريم في ماله وجاهه وخلقه العالم الشيخ عبدالرحمن بن سحمان -رحمه الله- قاضي التمييز بالرياض سابقاً، وبينهما معزة ومحبة ظاهرة، فقد كان الشيخ عبدالرحمن يزور الأفلاج أحياناً، وهو محبوب جداً عند الأسرة وأهل البلد، فيتنافسون في إكرامه، ويتزاحمون، فمنذ أن يصبح إلى أن ينام وهو يتنقل من بيت إلى بيت تلبية لدعوات محبيه لزيارتهم، ومن عادته أنه لا يجلس في مجلس إلا ويطلب أن يُقرأ في كتاب، فكان الجد لا يفارق الشيخ إلا عند النوم -رحمه الله، وهو الذي ينتقي من الكتب أطيبها، ومن المواضيع أجملها، وربما تشاور مع الشيخ عبدالرحمن أو تناقشا في مسألة فيحضر الكتاب المناسب ليُقرأ.
ومن عادة الجد أنه لا يرد أحداً طلب الدراسة على يديه، عقدت له دروس في المسجد القريب من منزله، في شرح منار السبيل، وفي الفرائض، وكانت له دروس في منزله بعد الفجر في متون الفقه وغيرها، ومن ذلك الروض المربع، وقد أنهاه -رحمه الله- بتعليقات منه، كما أفادني بذلك قاضي الاستئناف بالرياض الشيخ عبدالرحمن بن سعد آل عتيق -وفقه الله.
كان -رحمه الله- يحفظ القرآن جيداً، فحصل مرة أن إمام المسجد لم يكن موجوداً، وقد تم إعلان دخول شهر رمضان، فقدموه فصلى بهم، وقرأ حفظاً عن ظهر قلب، من غير أن يستعد لذلك، وأخبرني الشيخ إسماعيل بن عتيق -أمده الله- بالصحة والعافية عن الجد -رحمه الله- متعجباً من ضبطه في حفظ القرآن، أنه صلى خلفه صلاة التراويح سنتين أو ثلاثاً، حيث قد تولى مدةً إمامة مسجد الرابعي في الأفلاج يقول: فلم يخطأ (ولا غلطة) في صلاة التراويح طيلة هذه المدة.
فقيه فرضي، يضرب به المثل في تعليم الفرائض وإجادة ذلك العلم، حدثني والدي -حفظه الله- أن الجد -رحمه الله- أخبره عن عزمه على كتابة تعليقات على كتاب الفرائض لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله، ولكن وافته المنية قبل ذلك.
تضلع من العلم حتى أشير له به في البلد، ولكنه -رحمه الله- يقاتل التظاهر به، ولا يحب الشهرة.
قال في رثائه شاعر التوباد سعد بن ثلاب:
موسوعة العلم غابت عن مدينتنا
أصابها الدفن تحت الترب واللحد
من للعلوم التي تخفى غوامضها
من للفرائض والأشعار والنقد
كان له نصيب وافر من الأدب، فكان يحفظ المعلقات ويقرض الشعر، وكم يتحفنا في المجالس من الأدب الجاهلي والأموي والعباسي، ولا زلت أذكر بعض ما يقصه علينا ومنها قصة كثير عزة وجميل بثينة وغيرهما.
أذكر أنه طُلب مني حينما كنت طالباً في المعهد العلمي أن آتي من الغد ببيتين من الشعر، فلم أتذكر الطلب إلا في صباح الغد، فذهبت مسرعاً للجد -رحمه الله، فقابلته وهو يخرج من المنزل من باب كراج سيارته، قبل أن يصل إلى بابها، وهي (كابريس)، آخر ما اشترى، وهي التي كان موته بسبب حادث بها، وكان الوقت شتاءً، وعليه عباءة صوف من اللون المفضل عنده والمسمى بالأشقر، قد تقنع بها على رأسه، فقلت: يا أبي فصعد النظر فيّ وأنا أسأله، قد طلب مني أحد المشايخ بيتين من الشعر، وأريد منك أن تعطيني ما ترى، فأعطاني مباشرة بيتين من شعر السموأل.
حصل في ليلة زفاف أحد أبناء العم أن اتفق المترجم له مع الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبدالله بن العلامة الشيخ حمد بن عتيق -رحمهما الله- القاضي في الرياض سابقاً على أن يلتقيا في بيت الشيخ إبراهيم، ويذهبا سوياً لحفل الزواج، فصحبته لبيت الشيخ إبراهيم، بعدما صلينا معه صلاة العشاء في المسجد القريب من بيت الشيخ إبراهيم، ثم شربنا القهوة عنده، وكان محتفياً أشد الحفاوة بجدي الشيخ سعد -رحمهما الله، فقدم بعد القهوة الفاكهة، فكان يقدم له الموز ويقول: هذا ممتاز، هذا موز (أبو نقط)، ثم بعد ذلك ركبنا السيارة مع الشيخ إبراهيم في سيارته، وبعدما مشينا قليلاً أخذ الجد -رحمه الله- يتغنى ببعض الأبيات بصوت خفيف، يسمع نفسه، فالتفت إليه الشيخ إبراهيم -رحمه الله، وقال له: إيش تقول: تغني أو تقرأ قرآن؟ فقال الجد رحمه الله: بل أتغنى بقصيدة جميلة، فقال له الشيخ إبراهيم: سمّعنا، فأخذ يسرد لنا القصيدة من الفصيح، وكأنما يقرأها من كتاب، والطريق طويل، لا يقل زمنه عن العشرين دقيقة، فلما وصلنا لمكان الزواج، وأردنا النزول من السيارة قطعها وضحك وقال: والقصيدة طويلة.
ومن اللطائف ما ذكره صديقه الشيخ العالم العابد إبراهيم بن محمد الخرعان -رحمه الله، وهو وإياه متقاربان في السن، وكلاهما من طلاب سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله، وكلاهما توليا التدريس في المعهد العلمي في الأفلاج، يقول: كنت دائماً أستشيره، وأستفيد من رأيه، ولما توفي عنّ لي أمر يهمني، فرأيته في المنام، فاستشرته في ذلك الأمر، وأشار علي برأي جيد، وعملت به.
كان -رحمه الله- فقيهًا وعالمًا بالشريعة، وإذا تكلم في الأدب فكأنه لا يجيد إلا هو من سعة اطلاعه فيه، وقوة حفظه -رحمه الله.
حتى قال في رثائه الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن عتيق:
شيخ أديب وبالآداب يؤنسنا
في قوله حكم كلامه درر
حلو الحديث إذا ما قام يتحفنا
وليس في نطقه نزر ولا هذر
وقد صدق -رحمه الله- فهو يأنس بالجلوس والسمر معه، فإذا زار الأفلاج لا ينام إلا عنده - رحمهما الله.
كان الجد -رحمه الله- صاحب إطالة في قيام الليل، ويتقال قيام الليل مدة ساعة، نصح أبناءه مرة بقيام الليل، ويحثهم عليه، ويقول لهم وهم الوالد وأخواه: (أيعجز أحدكم أن يقوم ولو ساعة قبل الفجر؟)
كان -رحمه الله- لا يتأخر عن مساعدة المحتاج، بل يعرف الحاجة في وجه صاحبها، فيبادره بالمعونة من دون طلب، وكان لا يتكلم بها، وما عرفنا ذلك إلا بعد وفاته، حينما أخبر بمحاسنه من استفادوا منه.
سافر مرة للرياض مع مجموعة من الأقارب، وحلوا ضيوفاً على أحد الأقارب، فلما دخلوا عليه استضافهم ورحب بهم، ولكن الجد -رحمه الله- عرف في وجه المضيف قلة المال أو عدمه حينها، فاختلا به، وباغته بمبلغ من المال، يكفي لكلفة الذبيحة وزيادة، فكان هذا المضيف يخبرنا بتلك القصة، ويدعو له بقلب صادق.
وله قصص أخرى في هذا الباب لعله يناسب ذكرها في مقام آخر.
لما توفي والد المترجم له عام 1407هـ، اشتغل بقضاء ما عليه من الدين، فسمعت الجد -رحمه الله- يقول: لما قضيت دين والدي، رأيته في المنام وبشرته بأني قضيت دينه، وقد أخبرني الوالد -حفظه الله- أن الدين كان مقداره ثلاث مائة ألف ريال.
له ابن خال أصابه مرض الجدري، فكف بصره بسببه وهو الشيخ عبدالعزيز بن الشيخ محمد بن الشيخ إسحاق صاحب الحاشية على كتاب التوحيد بن العلامة الشيخ حمد، فاعتنى به الجد -رحمه الله- في المسيرة في طلب العلم، فقد أخذه معه، ومشيا سوياً في طلب العلم بين الرياض والدلم، والدراسة في المعهد العلمي وكلية الشريعة، وتزوج الجد أخته فهو خال الوالد، وقبل وفاة الجد -رحمه الله- بقرابة العشر السنوات بنى منزلاً له، وبنى ابن خاله منزله بجواره، وفتح بينهما باب، فكان المعتني ببنائهما الجد -رحمه الله- والوالد، حيث لم يرزق بذرية، ومن عناية الجد به أنه لا يذهب به إلى المسجد إلا هو، فهما ثنائي لا ينفكان في الذهاب إلى المسجد، والذهاب للمناسبات، وبعد وفاة الجد -رحمه الله- أصبح الذي يقوده ويعتني به الوالد -حفظه الله.
وكان -رحمه الله- لا يتأخر عن إكرام الضيف، فالمناسبات في منزله غداءً وعشاءً لا تحصى، في إجازة أو غير إجازة، كم مرة أتيت من المدرسة، وأدخل البيت، فأجده خالياً لأجل مناسبة غداء في منزل الجد -رحمه الله، فأتجه له لتولي مهمة صب القهوة أنا وأخي سعد، يفرح بالضيف إذا أوعده بالحضور لغداء أو عشاء، ويبشّر بذلك الوالد وأهل بيته، وهو مسرور غاية السرور، وتلحظ ذلك على وجهه -رحمه الله.
قال في رثائه العم الدكتور عبدالعزيز بن محمد بن عتيق:
رؤوفاً بمن تلقى سريعاً إلى الندى
كما الغيث جوداً والسريرة أطيب
حصل مرة أن جاء عنده مناسبة غداء في ثاني أيام عيد الأضحى، فذبح إحدى الضحايا، وهيأها ليكون الغداء منها، فلما حضر الضيوف، وأكلوا الغداء، وانفضوا من عنده، صلى العصر واشترى ذبيحة، لجعلها أضحية عوضاً عن التي ذبحها، فقابله الوالد وأنا معه، والخروف في سيارته، فقال: للوالد لم أرتح من جعل الأضحية وليمة للضيوف، وهذه بدلها.
رحمه الله كم أثر فينا سمته، وخلقه.
رأيت فيه الحرص على النصيحة، فكم سمعته يدعو إلى الجد في طلب العلم، وكان من نصيحته لأبنائه أن حثهم يوماً على الاهتمام بعلم التوحيد والعقيدة، ويقول لهم: سيأتي زمن تحتاجون فيه لعلم العقيدة.
وصدق -رحمه الله- فقد تذكر أبناؤه نصيحته، حينما رأوا انحراف الجماعات والفرق الضالة، من الخوارج وغيرهم، وتعالي أصواتهم في هذا الزمن.
ومن نصائحه أن نصح الوالد بالابتعاد عن التكلف في تطبيق أحكام التجويد في تلاوة القرآن.
توفي -رحمه الله- إثر حادث مروري في الأفلاج، أصيب بسببه بارتجاج في المخ، مما أفقده وعيه، وبقي بضعة أيام في غيبوبة، وعلى جهاز التنفس الصناعي، وبعد الحادث تم نقله على طائرة الإخلاء الطبي للرياض، في مجمع الملك سعود الطبي، ولكن لم تجد محاولة شفائه، فأمر الله غالب.
ويد الطبيب تخطفته يد الردى
فالله يحكم ما يرد بذاكا
فتوفي ليلة الأحد السادس من شهر ذي القعدة لعام 1414هـ، عن عمر ثلاث وستين سنة، وصلي عليه بعد صلاة عصر ذلك اليوم، في جامع الأمير عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن بعتيقة، ودفن في مقبرة العود بالرياض، ومن الموافقات أنه بعد دفنه مباشرة، نزل مطر غزير بلل قبره وبقية المقبرة، وقد حضر الصلاة عليه ودفنه جمع غفير من أقاربه وطلابه ومحبيه.
وبعد وفاته -رحمه الله- كما تعلم أبناؤه منه العفو والمسامحة، تنازلوا عن حقهم من الطرف الثاني في الحادث المروري من دون تردد.
وبعد وفاته -رحمه الله- خيم الحزن على أهله وأقاربه ومحبيه وتلاميذه، وقد فاض من ذلك الحزن قصائد الشعراء منهم، فرثي بما يزيد على خمس عشرة قصيدة من فصيح الشعر، ومرة لحظات محزنة، لا تزال في الذاكرة، فلا أنسى أول عيد أضحى بعد وفاته بشهر وأربعة أيام، الناس متجملون وجدتي -أمدها الله بالصحة والعافية- في ملابس حدادها بلا زينة، ولكنها صابرة، تستأنس بعبادة الله وقيام الليل، وتلاوة القرآن والأذكار، ولا أنسى ونحن مجتمعون كعادتنا لذبح الضحايا في منزله، فتطل علينا إحدى العمات بوجه عليه الحزن، لما رأت أول مشهد يغيب عنه والدها في ذبح الأضاحي، ولا أنسى بعد آخر يوم عزاء، وبعد تفرق الناس بعد العشاء، ونحن في صالة بيت الجد -رحمه الله- ليلة أمرني الوالد أن يكون مبيتي مستمراً عندهم؛ لمؤانستهم فتم ذلك.
ولا أنسى لحظة خروج الشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز بن سحمان من منزل الجد في آخر يوم عزاء، ولأول مرة أراه يبكي بحرارة، وهو خارج من منزل الجد -رحمهم الله جميعاً، وجمعنا بهم في جنات النعيم.
** **
كتبه د. عبدالعزيز بن حمد بن سعد آل عتيق - إمام وخطيب جامع الأمير مشعل بن عبدالعزيز بعرقة