الهادي التليلي
هل يمكن أن نتحدث عن التأثيرات المستقبلية لجائحة في حجم كورونا أو الخوض في تفاصيلها وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والوجودية وعلى كوكب الأرض قامة علمية من فئة المفكر الأمريكي أفرام نعوم تشومسكي Avram Noam Chomsky المولود في بنسلفانيا 1928 من أصول أوكرانية من جهة الأب وبيلاروسية حسب التسمية الحديثة للمكان من جهة الأم، والذي يعيش منذ أشهر في عزلة شبه اختيارية سببها الأول الحجر الصحي العام، والثاني قناعته بالعودة إلى الذات، والتفكير العميق فيما يحدث في هذا العالم، تشومسكي الذي ألف أولى مقالاته في سن العاشرة، عنونها بـ»الطاعون الفاشي»، وتحدث عن الحرب الأهلية الإسبانية وسقوط برشلونة، يخاطب الرجل بعد ثمانين عاماً من عزلته، الطفل الذي يسكنه ويعود بفعل أثر كورونا إلى طفولته ويؤلف «الخروج من الطاعون النيوليبيرالي»، وتحدث فيه عن خطر النيوليبيرالية على الاقتصاد، وآثار النهم البشري على المادة وعلى الانحباس الحراري الذي يهدد العديد من البلدان المهددة بالتصحر وفقدان ثروة المياه.
نعوم تشومسكي أستاذ اللسانيات الفخري في معهد ماساتشوتس، وصاحب أكثر من 100 مؤلف عميق، والذي اعتبر الشخصية المرجعية الأولى في الفترة بين 1980 و1992، كما صنف في المرتبة الثامنة لأكثر المراجع التي يمكن الاستشهاد بها على الإطلاق على مدى التاريخ، وتضم كارل ماركس ولينين وغيرهما، والذي صوت له بالإجماع سنة 2005 كأبرز شخصية ثقافية في العالم، الرجل الذي يعد أب اللسانيات الحديثة، ومؤسس النحو التوليدي، والذي سميت باسمه عديد الفتوحات العلمية، منها: «تراتب تشومسكي»، و»نظرية تشومسكي شوتزنبرغر»، والذي يعد من مؤسسي نظرية البروباغندا السياسية والإعلامية مع إدوارد هيرماس.
رجل بهذا الرصيد هل يصمت أمام قرع الحرب على كورونا؟ هل يصمت أمام تغول النيوليبيرالية وديكتاتورية شركات الأدوية وطغيان الحروب الاقتصادية والجرثومية الشعواء، وهو الذي زيادة على كل ما تقدم يعد المؤرخ الرئيسي لليسار الأمريكي، وهو الذي عُرف بكتابات تاريخية وسياسية وصاحب مقالات ناقدة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة من حرب الفيتنام إلى الحرب الاقتصادية على الصين وأوروبا مروراً بالحرب الباردة.
هذا وغيره جعل أهم فضائيات العالم وصحفها تولي وجهاً صوب مكان عزلة تشومسكي في توكسن بولاية أريزونا لمعرفة رأي كبير الفكر في العالم وإن كان الرجل يشمئز من هذه التسمية.
ففي جوابه عن سؤال إلى ما تحملنا كورونا.. يرى تشومسكي أن حدثين وشيكين ستنتجهما، خاصة بسبب الاتهامات المتبادلة حول المسبب، أولهما تزايد تهديدات الحرب النووية، وثانيهما تزايد مخاطر الاحتباس الحراري الذي ينبئ بكوارث بيئية على مستوى الكوكب، فهو يرى أن ما بعد كورونا أخطر من كورونا.
وفيما يخص تقييمه لمحاولات تطويق آثار الوباء، يرى أن العالم ضحية استهتاره بقيم الإنسانية، وأن البشرية، خاصة الدول العظمى، كان أمامها الوقت الكافي لإيجاد حلول من لحظة اكتشاف الوباء في ووهان الصينية، ويرى أنه كما أن كلمة كلب لا تنبح عند السلوكيين، فإن خطابات ترامب لا تحل المشكلة، ويقارن بين خطابات ترامب تجاه كورونا وخطابات هتلر التي لا يزال صداها يتردد في أذنيه منذ طفولته، حيث لم يكن يفهم الكلام ولكنه يشعر بالطاقة الأيديولوجية المتفجرة فاشية قاتلة، والفرق بين فاشية هتلر ونيوليبيرالية ترامب أن كليهما يخادع العالم -حسب رأيه- حيث إن فيروس كورونا التاجي كشف قناع الفشل المستتر خلف الخطابات والصور الذهنية المخادعة.
وعن الحركة التكتونية للمشهد العالمي يعطي تشومسكي مثالاً بسيطاً معبراً هو ما حققته كوبا من نجاحات في مقاومة الفيروس، خاصة أنها عرضت على أوروبا مساعدتها على تجاوز الأزمة، فبلد محاصر تحت صمت أوروبي يوقظ العالم على حقيقة أنها أقدر من أمريكا على تجاوز الجائحة، وتلك من علامات بداية تغير الموازين، ويعتبر أن البلدان الغنية والتي لها موارد متنوعة ستعود بعد الأزمة أقوى بكثير مما كانت، وهنا يلمح إلى أمريكا، والصين، وروسيا، والمملكة العربية السعودية، وألمانيا، ويستثني الهند التي يراها ستعاني أكثر للفوارق الاجتماعية القاتلة فيها، حيث يرى أن السواد الأعظم بهذا البلد يعيش اليوم بيومه فكيف سيصمد أمام جائحة لا أحد يعلم متى ستزول.
وبخصوص التركيز على مقولة حرب الجيوش البيضاء على كورونا يرى فيه تسلطاً وتعميقاً لرغبة هوامير وعصابات شركات الأدوية، وتأسيساً لديكتاتورية مركبة ومتعددة السطوح، فالحلول يرى أنها موجودة في غرف مظلمة، ويدلل بشفاء الصينيين التام، ولكن حرب هذه الشركات خربت العالم، ويعتبر محاربتها أهم من إعلان حرب وهمية صنعتها البشرية، ويقول إن كورونا التاجي صحيح هو أشد ما أصاب الإنسان خلال القرون الأخيرة، ولكن هناك استفهامات على الدول المصنعة للفيروس وأدويته أن تجيب عنها، وأولها لماذا لم تخبر الصين العالم بالخلطة السحرية التي أخرجتها من مستنقع كورونا؟ ولماذا ترامب لم يصارح العالم عن أسباب فيروس سارس الأب الشرعي لكورونا وإنفلونزا الخنازير والدجاج وغيرها؟
تشومسكي معارضنا الذي يشارف على مغادرتنا وهو يستعد للاحتفاء بذكرى مولده الثالث والتسعين، أضاء مساحات كثيرة من العلم والمعرفة واللسانيات والتاريخ والسياسة، وستخسر البشرية قامة كبيرة يصعب تعويضها ولكن هذا الرجل وهو يقول ما يقوله لأجل البشرية وخيرها من استمع إليه؟