في الوقت الذي تتحدث فيه الصحف الألمانية عن محاولات أمريكية للتجسس الصناعي ومحاولة شراء العقول والمعرفة لعلماء ألمان يعتقد أنهم اقتربوا من إيجاد لقاح ضد فيروس كورونا المستجد COVID19. وفي الوقت الذي تمت المطالبة بأمريكا لإعادة تفعيل قانون قديم باسم «قانون إنتاج الدفاع»، وهو قانون صدر في 1950م ليمنح الرئيس الأمريكي سلطات واسعة لتحديد أولويات تصنيع وإنتاج عناصر معينة عندما تصبح مهمة للأمن القومي، مثل أجهزة التنفس الصناعي في يومنا هذا. وفي الوقت الذي تحاول أمريكا في صدامها مع الصين أن يكون لها السبق في إيجاد «اللقاح المنتظر» لفيروس كورونا المستجد. وكما تسعى أمريكا أن يكون لها قصب السبق في سباقها مع الصين لإنتاج «اللقاح المنتظر» لفيروس كورونا المستجد. بينما تحاول الصين مواجهة الدعاية الأمريكية ضدها، والإثبات للعالم أنها خرجت منتصرة من حرب بيولوجية وتحمل «الأمل في الحياة» للعالم!. وحيث يتداول الكثيرون القصص والأخبار من اليمنة واليسرة عن نظريات المؤامرة ونظرية البجعة السوداء، وأن ما يمر به العالم هو صناعة أمريكية بحتة. وفي خضم التصعيدات السياسية والتراشق الإعلامي ووسط تكهنات بنشوب حرب عالمية ثالثة، هناك فئة من الساسة والمفكرين في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والتكنولوجيا وغيرها، يرون أن هذه ليست سوى إرهاصات وأعراض غير مستغربة بل يتوقع حدوث ما هو أسوأ منها لعالم قديم يغير جلده ليستبدله لدخول عالم جديد، يعتقد الكثير من الخبراء أنه يتشكل ويتبلور منذ مدة من الزمن، وهذه الفئة تراقب هذا التحول لتحاول فهم ملامحه، ربما من أجل المساهمة في بلورته أو الانضمام إليه أو التأقلم وتحديد الموقف من القوى واللاعبين الأساسيين وأدوارهم فيه.
وهل كانت الحرب التجارية الأمريكية- الصينية التي نشبت قبل عدة أشهر ورأس حربتها شركة هواوي المتقدمة جداً في مجال تطبيقات الجيل الخامس وتطوير الجيل السادس للاتصالات، والتي تشكل إحدى الركائز الأساسية للثورة الصناعية الرابعة والرقمنة وتطبيقاتها، سوى إرهاصات أنبأت عن هذا التطور الواضح وسير العالم باتجاه «نظام عالمي جديد» «New World Order»، يبنى على أنقاض العالم السابق والذي رسمت ملامحه الأساسية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي خرجت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها منها منتصرين متوجين انتصارهم بإنشاء «منظومة الأمم المتحدة» عام 1945م. ورغم المنافسة السياسية والعسكرية من الاتحاد السوفيتي للولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية بقيت في مجملها بيد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
نرى أنه من الممكن القول إن الفترة الحالية ليست فقط فترة ركود وانعزال على المستوى الفردي والاجتماعي والمؤسسي والإقليمي والدولي، وإنما هي فترة تتجلى فيها ردود أفعال الدول والمنظمات والأفراد، تحت تأثير الخوف من المجهول سواء على مستوى جائحة أو أزمة فيروس كورونا وتداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية أو على مستوى العالم الجديد الذي يتبلور ويتشكل منذ مدة. وهي فترة تتجلى فيها أمام صناع القرار والمراقبين أهمية وضرورة تحديد أهم الموارد الاستراتيجية التي يجب على الدول والمؤسسات والأفراد التركيز على تأمينها من الناحية المعرفية واللوجستية معاً، خصوصاً عند حلول الأزمات والكوارث. وكذلك، ماهية العقود غير المكتوبة بين الأمم والدول والمنظمات وبين الأفراد والمنظمات والحكومات التي ينتمون إليها أو يرتبطون بها. وهي الفترة التي ستنعكس فيها القيمة الحقيقية لتراكمات بناء الولاء والإيمان بالشراكة والانتماء والرغبة بالعمل يداً بيد بغض النظر عن الاتفاقيات والعقود والمعاهدات التي وقعت تحت أضواء الكاميرات في أوقات الرخاء. وهنا تفرض تساؤلات مهمة نفسها على الدول والمنظمات والمجتمعات ألا وهي: ما هو الأهم؟ هل هو الصحة؟ أم الاقتصاد والموارد المالية؟ أم رأس المال البشري؟ الآلات؟ المعدات؟ الطبيعية؟ أم جميعها مع ترتيبها بحسب أولويتها؟
وبطبيعة حال المرحلة الحالية، فهناك ما قد يساعد على الفهم والإجابة عن التساؤلات أعلاه وهي الزوايا والأبعاد والنماذج المهمة التي يمكن القول إنها تبلورت واتضحت معالمها أو في طريقها إلى ذلك، والتي جربت إجبارياً في ضوء العزل الاجتماعي القسري في بعض الدول وشبه القسري في دول أخرى، وهي زوايا وأبعاد ونماذج اقتصادية واجتماعية وسياسية وصحية، خضعت لاختبارات مبدئية حقيقية على أرض الواقع في جميع دول العالم تقريباً، خلال جائحة كورونا المستجد التي نعيشها لحظة كتابة هذه الكلمات. ويحيط ويؤثر بها وعليها تطورات وثورات تقنية أهمها الثورة الصناعية الرابعة والرقمنة، مثل أنماط العمل، والإنتاج، وأنواع الوظائف المنبثقة منها، والتشريعات المحيطة بها، ونظم التعليم الداعمة لها ولتقدمها وتطورها.
وهنا تبرز تساؤلات مهمة: كيف سيكون العالم بعد أزمة أو جائحة كورونا؟ ما هي الأنماط أو نماذج العمل والإنتاج الجديدة في المجال الصناعي؟ هل ستدخل الروبوتات في جميع الصناعات بما فيها الصناعات المكتبية؟ كيف ستكون الصحة والتعليم وغيرها من المجالات؟
ولعلي أسلط الضوء على بعض ما يدور في ذهني وأذهان الكثيرين. فمثلاً، فيما يخص التشريعات في عالم ما بعد جائحة أو أزمة كورونا، هل ستضعف مقاومة المجتمعات والمشرعين والسياسيين لموضوع دخول بعض تطبيقات الثورة الصناعية الرابعة مثل الروبوتات، إلى العديد من الصناعات خصوصاً الصناعات المؤثرة بشكل مباشر على الإنسان وصحته مثل صناعة الأغذية؟ بل هل سيطالبون بدخول الروبوتات إلى صناعة مثل صناعة الأغذية لضمان الجودة والتعقيم؟
أما فيما يخص الوظائف، فالتساؤلات قد تدور حول حجم وأنواع وظائف المستقبل التي ستنشأ أو التي نشأت وجربت كفاءتها وتطبيقاتها على أرض الواقع خلال الأشهر القليلة الماضية؟ فمن الواضح والجلي تأثير بعض تطبيقات الثورة الصناعية الرابعة على قطاعات مثل الصحة والأمن والمال والأعمال والتعليم. وأن التحولات الرقمية أصبحت أوضح وأكثر تجلياً وخضعت لاختبارات كافية تثبت نجاعتها ونجاحها.
وحول التحولات الرقمية، تطرأ تساؤلات مهمة، وهي: هل نستطيع القول إن «الرقمنة» أو التحول الرقمي (في حال اتفقنا أن هذا هو المصطلح الصحيح استخدامه هنا)، هي أهم تطبيقات الثورة الصناعية في الفترة المقبلة؟ هل ما بني من مجتمع معلوماتي وبيانات ضخمة سيمكن العالم من استثمار البيانات والعمليات «المرقمنة» في تغذية أنظمة الذكاء الاصطناعي العالم من استثمار البيانات والعمليات «المرقمنة» في تغذية أنظمة الذكاء الاصطناعي لتقوم بدورها الاقتصادي والتنموي في مجالات مثل: الأشياء الآلية (مثل الزراعة الأوتوماتيكية، والروبوتات، والمركبات ذاتية القيادة، والطيارات المسيّرة)، التحليلات المعززة (مثل استخدام التعلم الآلي ومعالجة اللغة الطبيعية لتعزيز ذكاء الأعمال)، التطوير الذاتي (مثل استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تطوير نفسها)، التوأم الرقمي (أي تمثيل رقمي يعكس الأشياء والعمليات والأنظمة المادية)، الحوسبة عند الحافة (أي انتقال المعالجة الرقمية للبيانات إلى مصدرها نفسه)، التطبيقات الغامرة (مثل الواقع المعزّز، وهو تقنية قائمة على إسقاط الأجسام الافتراضية والمعلومات في البيئة الحقيقية لتوفر معرفة إضافية، لكنه نقيض الافتراضي القائم على إسقاط الأجسام الحقيقية في بيئة افتراضية، والواقع المختلط مزيج من الاثنين)، الحوسبة الكمومية (تتيح الحوسبة الكمومية معالجة أسرع بكثير من الحاسبات العملاقة باستخدام وحدة بيانات «كيوبت»، ليس 0 و1 فقط مثل الحوسبة الرقمية لكن مزيجاً منهما أيضاً)، «البلوكتشين» (تقنية رقمية تعمل بمبدأ دفتر الحسابات الموزع، فتوفر ثقة من دون وسيط للمعاملات المالية والحكومية والصحية)، والأماكن الرقمية الذكية (أي بيئات رقمية ومادية يتفاعل فيها البشر والأنظمة التقنية الذكية بانفتاح وتواصل وتناسق مثل المدن الذكية).
وتقودنا هذه التساؤلات إلى تساؤلات أخرى مهمة، في الشق الاجتماعي، وهي: هل ستقودنا تطبيقات الثورة الصناعية الرابعة إلى تطبيق الأمن والعدالة والتعليم والصحة بشكل أفضل من الشكل الحالي؟ هل سنطالب يوماً ما أن يقوم «قاضي رقمي» بالنظر في قضية تخصنا لضماننا تحت واقع الإثباتات المستمرة والممارسة والاختبار للتقنية وتطبيقاتها أنه ليس لدى هذا القاضي أي مشاعر سلبية أو إيجابية ولا يهمه من يكون الخصوم ولا يمكننا التأثير على قراره بأي شكل كان؟ هل سنحتاج إلى هذا القاضي من الأساس في ظل ضبط العقود والاتفاقيات من قبل «البلوكتشين» وبعض تطبيقاته المحتملة مثل «المحامي أو الموثق الرقمي» وغيرهم من الأشخاص الافتراضيين (إن صح تسميتهم بأشخاص)؟ ويتفق الخبراء حالياً على أن تقنية «البلوك تشين» ثبت عدم قبول خوارزميتها للتلاعب والتغيير؟ هل سيحتاج المشرعون أن ينظروا في تداعيات الثورات الصناعية والرقمية الجديدة على مستقبل الملايين من البشر القابعين تحت خط الفقر أو في غياهب الأمية المتمثلة في عدم استطاعة القراءة والكتابة، ناهيك عمّن يعانون من الأمية الرقمية في هذا العالم الجديد والمتجدد بسرعات عالية جداً؟ وماذا سيحدث لوظائفهم؟ ما تأثير هذه الثورات على النواحي الخاصة بحماية البشر العابرين للحدود الدولية هرباً من القمع والاستبداد أو الفقر والمجاعة؟ هل ستظل الكثير من الدول التي تحتاج إلى سكان إضافيين مثل دول أوروبا إلى مهاجرين من أصقاع المعمورة لملء الفراغات الوظيفية التي من الممكن أن تشغلها روبوتات آلية متطورة تعمل على مدار الساعة ولا تنقطع إلا عند الحاجة لصيانتها أو تعطلها أو ما شابه ذلك؟
الأسئلة تتعدد وتتكرر وتتواصل وتتجدد، ومنها ما قد يواجهكم أعزائي القراء شخصياً وبشكل عام، سواء كنتم طلاباً أو قياديين أو موظفين بالقطاع العام أو الخاص أو رجال أو سيدات أعمال أو أياً كان دوركم، حول العالم الجديد أو عالم ما بعد كورونا، مثل: ما التأثير المحتمل للثورات الصناعية والرقمية القادمة على العالم ككل؟ وما تأثيرها المحتمل على وظائف البشر؟ كيف سنتكيف ونتعامل مع الواقع أو العالم الجديد بفئاتنا وأدوارنا كافة؟ ما هو التأثير المحتمل للثورة الصناعية و»الرقمنة» على القطاعات أو الأسواق في مجالات الصحة، التعليم، الطاقة، أو غيرها من القطاعات والأسواق لمعرفة عليها؟ ما هي استراتيجية التعامل مع الواقع الجديد؟ ما الذي نريده على الأصعدة الشخصية والمهنية في هذا العالم أو الواقع الجديد؟
ببساطة، ربما حين تطلق صافرة نهاية الحجر القسري أو الاختياري المرتبط بجائحة كورونا المستجد حول دول العالم فورياً أو لحظياً، ويحين وقت العودة للحياة الطبيعة، وهي ما يمكن تسميتها حياة ما بعد كورونا، سنكتشف أو سيكتشف الكثيرون منا أن العالم الجديد، أو ما يمكن تسميته عالم ما بعد كورونا، يتطلب نمطاً أو أنماطاً حياتية جديدة تؤثر على مجالات الصحة والتجارة والتعليم والسفر وكل مناحي الحياة الأخرى. كما سيقبل البشر على أنماط عديدة من التعاملات عن بعد سواء تعليمياً أو صحياً أو تجارياً أو غذائياً أو حتى اجتماعياً. كما يتوقع تأثر أبسط الأمور المرتبطة بتسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات. فمثلاً، يتوقع ازدياد حفر الآبار واللجوء للزراعة الذاتية عند من ستطيع ذلك من البشر، وغيرها من الأنماط المرتبطة بالإحساس بالأمان والمتوقع نشوؤها وتبلور ماهيتها بعد الخروج من نفق جائحة كورونا المستجد.
كما ستجد الكثير من الدول نفسها أمام خيارات استراتيجية متمثلة بضرورة تأمين الاكتفاء الذاتي في المجالات كافة أو معظمها، مع ازدياد درجات الحمائية وتفكك الكثير من الاتفاقيات الدولية والثنائية والإقليمية طوعاً أو كرهاً في ضوء ما حدث في خضم الأحداث السياسية والصحية والاجتماعية المرتبطة بجائحة كورونا.
** **
م. محمد بن منديل المنديل - مستشار تقنية معلومات ومهتم بالابتكار وريادة الأعمال
mohammad.mandeel@gmail.com