أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: إذا منَّ الله سبحانه وتعالى على عدد من الشباب على مدى التاريخ الإسلامي العربي والأعجمي المسلم: أن يكون كل واحد منهم: (ليس له صبوة) فأنعم بحياته وأكرم ما يرتد آخر عمره؛ فالإنسان على خوف من ربه، وعلى ثقة من عصمة ربه (كلام الأمرين معاً) بشرط كثرة الدعاء، والإلحاح في دعاء ربه بأن يكتب الله حسن الخاتمة.
قال أبو عبدالرحمن: ثمة شاب ليست له صبوة، ولم تكتب هذه المرحلة الكريمة لابن عقيل الظاهري؛ فكم وكم وكم له من صبوة؛ وإما كنت في منتصف العمر؛ وذلك هو مرحلة الأشد منذ أن يبلغ المسلم أربعين سنة؛ فكان العقلاء الجادون يشدون المئزر في عبادة ربهم ممتثلين قول ربهم سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (سورة الأحقاف/ 15)، وهذه مرحلة كنت فيها ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم، وربما كانت صحواتي كأفاويق الناقة، ولا تزال هذه المرحلة إلى سن الكهولة وهي ستون عاماً؛ فما بعد هذه المرحلة شيء، لأن الله أعذر لابن ستين عاماً.. أي يخشى أن يرفع الله عنه جانب العذر، وربما كنت في هذه المرحلة أحسن حالاً.. ولكن من تجاوز ثمانين عاماً؛ سواء أبقي عنده شيء من النشاط، أو أدركه الوهن؛ فماذا ينتظر من الأمل في حياته إن لم يرجع إلى ربه بجد وصدق؟.. إن من لم يوقن بقرب الرحيل، ويلجأ إلى ربه بالدعاء والاستغفار، ويتأهب خوفاً وطمعاً ليوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين: لمغبون العقل، معرِّض نفسه لسوء الخاتمة عياذاً بالله.. وفي هذه المرحلة كنت جاداً في طلب العلم (واجبه ومباحه ولممه)، واعتورني في هذا الجد ما قاله بعض العلماء: (تعلّمنا العلم وما لنا فيه كبير نيَّة، ثم رزقنا الله النيَّة بعد)، ومثل ذلك قول آخر: (تعلَّمنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله).. انظر (خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول) لـ(أبي محمد عبدالرحمن بن إسماعيل أبي شامة) (599 - 665 هجرياً) رحمه الله تعالى ص58- 59/ أضواء السلف بالرياض/ الطبعة الأولى عام 1424 هجرياً، وضمير الفاعل في (يكون) عائد إلى العلم نفسه بإسناد مجازي، ولا عجب في ذلك؛ لأن المسلم الطالب العلم الشرعي لا يفقد إيمانه، ولكن إيمانه يضعف بالنيَّة المدخولة بمقدار ما عنده من تقصير وغفلة عن محاسبة نفسه، فلا يكون عنده كبير نيَّة لربه جلَّ جلاله، ولاكون متجرداً من النيَّة لربه، ولكن يغلبه نازع النفس الأمَّارة بالسوء إلى حب الشهرة، وشعبية الثناء بالمفكر المتحرر، أو تغلبه الحمية للمذهب؛ ولكن العلم الشرعي القطعي الذي لا خلاف فيه (وأكثره من مسائل الإيمان) سيرده إلى ربه ولو بالتدريج؛ لأن المؤمن على خير من ربه دائماً؛ فيخلص النيَّة لربه، ويكون هذا العلم الإيماني خير معين له من مولاه وخالقه على عدوين لدودين حذَّرنا ربنا منهما، وسأتلوا عليكم إن شاء الله تعالى خبرهما.. وكنت في (تفسير التفاسير) المبارك الذي فرغت من أوله منذ ثلاثين عاماً في مرحلة الأشد، وقد غلبتني نفسي على التعصب للإمام (ابن حزم) رحمه الله تعالى.. ثم عدت الآن إلى استئناف (تفسير التفاسير) وأنا في مرحلة الورع، وقد جاوزت ثمانين عاماً بخمس سنوات.. وبلغت هذه المرحلة وقد أعانني ربي بعد صراع مرير على عدوين لدودين: أولهما نازع نفسي شرير من النفس الأمَّارة بالسوء، وهو نازع حب السمعة وبعد الصيت؛ فما يفرغ من عمل يبثه مقروءاً أو مسموعاً إلا وهو يترقّب ثناء الناس، أو يحس إحساساً كاذباً بالغبطة لأنه انتصر لمذهبه بالحق وبالباطل.. وثانيهما الشيطان العدو المبين الذي يأمرنا بالفحشاء ويعدنا الفقر.. يزداد تمكّنه بغلبة النازع النفسي الذي أسلفته لكم؛ فإذا استحضر المسلم تحذير ربه من هذين العدوين، وعلم أنه واقع في شركهما: فإن إيمانه يُلجئه بإذن الله تعالى إلى الاستجارة بربه بالدعاء اللحوح، وسؤال هدايتي البيان والتوفيق في قوله: (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه)، ويستحضر آخر سورة الفاتحة وهو يقرؤها في اليوم والليلة وجوباً سبع عشرة مرة مع ما لا يكاد يحصى من المرات في النوافل والأوراد والرقية؛ فلا تكون نيته إلا لربه مع بقاء الجهاد لذينك العدوين، ويجدِّد النيَّة دائماً، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.