د. محمد بن إبراهيم الملحم
تحدثت عن ورش الأعمال الفنية المهنية والتي تخلو منها مدارسنا -مع الأسف- وأشرت إلى أن الدمج مع التعليم الفني والمهني لم يثمر عن تقدم في هذا المجال لصالح طلاب التعليم العام، لتنشأ لديهم بذرة مهارات العمل اليدوي المهم لحياة الإنسان للتعامل مع المشكلات البسيطة ولدعم التنمية الاقتصادية على المدى البعيد. وقد وردتني تعليقات وإشارات إلى برنامجين يرى أصحاب الإشارات أنها تخدم هذا المجال، وهي كل برنامج «ماهر 2018» وبرنامج «تعليم وعمل 2015»، وكلاهما ضمن شراكة مع التعليم الفني والمهني ولكنهما لا يعبران عن المفهوم الذي دعت إليه المقالة، وليست ممثلة له وإن كانت إضافة مهمة. فالمطلوب هو مقررات ثابتة في كل المراحل الدراسية يتعلم من خلالها الطالب مهارات العمل المهني بدرجات متناسبة مع فئته العمرية، بحيث يتخرج من التعليم العام وقد تحققت ضمانات أنه يملك الأساسيات، سواء في التطببيق والاستخدام أو حتى في المعارف والمعلومات المرتبطة بتلك المهارات، والبرنامجان المذكوران لا يحققان ذلك، وسوف أزيد الأمر بيانًا ببعض التعليق والتفصيل.
فأما برنامج «ماهر» الذي أطلق مؤخرًا عام 2018 ليركز على الابتكار في التصنيع الرقمي وبرامج أخرى في السياق نفسه وبدأ في عدد من المدارس ليتوسع بعدها.. فهو برنامج ينتمي إلى النشاط الطلابي ليستوعب الطلاب الراغبين في التعرف على المهارات التي يقدمها البرنامج. صحيح أن السمة المهنية الفنية للبرنامج أكسبته هذه الهوية (تعاون بين التعليم العام والتعليم والتدريب المهني الفني)، لكنما التصميم غير شمولي، فهو وإن كان يتوسع سنة بعد سنة ليشمل مدارس أكثر ومناطق أكثر ولكنه يظل توسعًا في إطار النشاط الطلابي، وهو مساحة اختيارية وتتبع مبدأ الهواية والرغبة الشخصية أكثر منها تأسيس المهارة وزرعها لدى «كل» طالب ليكتشف ذاته وينطلق. وهذا مبدأ عام في فلسفة التعليم، فأنت تقدم للطالب كل فنون العلم ومهاراته: التذوق اللغوي في القراءة والمنطق في الرياضيات والاستكشاف في العلوم، وهكذا وسوف يكتشف المتعلم أيًا من هذه تنتمي لها شخصيته المعرفية أو المهارية ليطور بعد ذلك نفسه من خلالها. المهارات المهنية ينبغي أن تكون من هذه الأساسيات التي يتعرف عليها كل متعلم ويقيم ذاته فيها، لا من حيث الاستخدام المباشر فقط بل حتى في الأفكار والأساليب التي يمكن أن يقترحها المتعلم في كيفية التعامل مع هذه الأدوات والمهارات وحل مشكلاتها بطرق مبتكرة.
وأما برنامج التأهيل المهني لطلاب المرحلة الثانوية (تعليم وعمل) والذي أطلق عام 2015 فقد أثمر عن مقررات اختيارية (حرة) في نظام المقررات للتعليم الثانوي، وعلى الرغم أنه «إضافة» مهمة أيضًا للمبدأ الذي أدعو إليه في «دمج» مهارات العمل المهني في التعليم العام إلا أنها لا يمكن أن تعبر عن المفهوم وحدها وتكون ممثلة له، ومع ذلك فإن هذا البرنامج له تركيبة التوفيقية بين الموارد المتاحة في معاهد التدريب المهني كمكان تدريب وطلاب التعليم العام كمستفيدين، وهو ما يعني أن البرنامج لم يؤسس ورشًا في المدارس بل تأسس على مبدأ أن الطلاب ينتقلون من مدرستهم إلى مقر معهد التدريب (حيث تتوفر الورش والمدربون كذلك) ويحضرون الحصص ويتلقون التدريب ثم يعودون إلى مدرستهم، ولذلك يتنقلون بحافلة النقل أو وسيلة النقل الخاصة بهم (إن شاءوا)، وهذا يعني أن يخصص يوم كامل لذهابهم لمعهد التدريب لصعوبة أن يتنقلوا يوميًا من المدرسة للمعهد في ظل جدول دراسي ذاخر بالمواد الأخرى بطبيعة الحال، وكذلك تخصص حافلات التوصيل، وكلا الأمرين له صعوباته، وقد تتمكن بعض المناطق التعليمية من التغلب عليها نتيجة لمواءمة ظروفها، وقد لا تتمكن مناطق تعليمية أخرى من ذلك، وهذا قد يفسر أن البرنامج ما زال مستمرًا في بعض المناطق وتوقف تقريبًا في مناطق أخرى! وهذا السيناريو مختلف تمامًا عن الوضع الذي توفر فيه الورش في المدرسة ويتم تدريب بعض المعلمين أو مساعدي المعلمين على المهارات الأساسية للعمل المهني أو يتم توفير مدربين مختصين لهذا الغرض، ففي هذه الحالة يكون المبدأ مؤسسًا على أركان راسخة وقوية وله قيمته المعنوية ومخرجاته الملموسة.
وبالنسبة للذين قد يلمحون إلى التكلفة المادية العالية المترتبة على توفير مدربين لهذا المجال، فأود أن أذكر أني لا زلت على رأيي بشأن مادتي التربية البدنية والفنية وما زلنا نوظف معلمين لهذين التخصصن ونعاملهما كـ«مادتين» أو «مقررين» مع أنهما ينبغي أن تكونا ضمن النشاط الطلابي. وأنظر مقالتي السابقة حول ذلك «هل نحتاج هذه المواد؟» في العدد 16289 يوم الخميس 08 شعبان 1438، وإني أرى إن الصرف على وظائف للتدريب على العمل المهني أجدى وأجدر لاقتصادنا من الصرف على تدريس التربية البدنية والفنية في الوقت الحالي.