د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
للنحويين نهجُهم في استقاء مقولاتٍ يروقُ لهم الاستشهادُ بها، ويلذُّ لبعضنا استعادتُها، ومعظمُها من تصنيفهم، ووعينا منها: «علّفتها تبنًا وماءً باردًا» في باب المفعول معه، و«قطع الله يدَ ورجلَ من قالها» في باب الإضافة، و«أظن ويظناني أخًا زيدًا وعَمرًا أخوين» في باب التنازع، ومنها: المقُولة التراثية: «اللهم ضبُعًا وذئبًا» وفيها عاملٌ مقدّر، وقد وردت في «لسان العرب» شعرًا:
تفرقتْ غنمي يومًا فقلتُ لها
ياربِّ سلِّط عليها الذئبَ والضبُعا
وندعُهم دون زهدٍ بهم لنلتفت إلى المراد من الجملة والبيت ونستفهم: هل هما دعاءٌ للغنم أم دعاءٌ عليها؛ فالمعنيان محتملان؛ إذ ربما أسهم اجتماع «الضبع والذئب» في اشتغالهما ببعضهما وتقاتلهما لتنجوَ الغنم، وإن مال «ابنُ منظور» إلى حنق الشاعر من غنمه وطلب الذئب ليفترس أحياءَها والضَّبُع ليأكل مَيتاتِها، ولا إشكال إذ كلٌ أدرى بغنمه وغنائمه في البُعد الفردي، لكنه -على المستوى الجَمْعيّ- منقسمٌ أو مُقتسمٌ بين هذه المكونات؛ فثمة ضباعٌ وذئابٌ وغنم وراعٍ رحيمٌ وآخرُ أثيم.
** تشي العولمةُ السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يؤصّل تجذرَ هذا التكوين الممتد من الماء إلى الماء وتأثرَ الساحة الثقافية المفترض تأثيرُها، فلا شأن لها بصراع الأقوياء، ولا قيمة لها إن اختارت مراتع الضعفاء، واعتدنا الفكر قائدًا لا مقودًا، كما ألِفناه هادئًا هانئًا لا يستعلي ولا يستدعي، وليس في قاموسه غَنَمٌ ولا غُنمٌ؛ فإنما هي كلماتُه تسكن التأريخَ ولا يسكنُها، وتعبر الحدودَ فلا تستوقفها.
** ولأن الثقافة معبر بين الحُلم والوصول فإن دعاءها المفترض: «اللهم لا ذئبًا ولا ضبعًا ولا غنمًا» تُكدِّر صفاء الرؤية وجمال الرويّة في ميدانٍ غير متكافئٍ تسود فيه قوةٌ مندفعة «الذئب»، وبيئةٌ رديئةٌ «الضبع» وجمهورٌ خائر «الغنم»، والرعاةُ تبعٌ وإن سادوا.
** قد يختصر هذا التنوعُ بعض حكايات المشهد المتناقض الذي لم يبرأْ - رغم الأزمنة المستطيلة - من وهم السلطة والاحتماء بالادّعاء، والتخويف مما تبثه نظرية المؤامرة من مخططاتٍ أكثرُها تهيُّؤات.
** في المنطق الثقافي لا أحد يتآمرُ سرًا، وقد تتعادل كفتا الربح والخسارة بين العالَم الأول والعاشر مهما تكاثرت الضباع والذئاب والغنم؛ فالعقل لا يستجيبُ لموازين القوة المادية، ولو فعل لما تصدرت ثقافاتٌ في العالم الثالث، ولما احتفظت بهُويّاتها متخطيةً مخلفات الاستعمار والاستعباد والإلغاء والإملاء، لكن الوسط الثقافيّ بطبعه وسطٌ ضجرٌ يصعب إرضاؤُه مثلما يسهلُ إمضاؤه، والتناقضُ بين الحالين تناقضُ توترٍ يعي وهوىً يدَّعي حين يسعى بعضُ مُنتميه إلى المؤقت والنفعيّ؛ فيسيرون ويستديرون وَفق مصالحَ متبدلةٍ لا ترتقي إلى موقع الثقافة ولا تنسجم مع إيقاعها، والضبعُ والذئبُ والغنمُ بيادقُ للعبث أو بنادقُ للاستعراض.
** بثُّوا الضجر فأعْدَوا واعتدَوا، وضجر معهم وبهم من يقتاتون في تفكيرهم على منطقِ « اللهمَّ ضبعًا وذئبًا ولو لم يكن لدينا غنم».
** التحشيدُ خلل.