محمد سليمان العنقري
ليس سرًّا أن العالم بعد جائحة كورونا لن يكون كما قبلها؛ فهذا الأمر بات مسلّمًا به، وأصبح يتردد على لسان كبار المسؤولين في دول عديدة، بما يعزز هذه القناعة التي لم يعد هناك تشكيك في احتماليتها، بل باتت واقعًا ينتظر الجميع تفاصيله القادمة؛ إذ لن تدار الأعمال بطرق تقليدية سابقة، ولا حتى التعليم أو الطرق التي يحصل بها الناس على الخدمات، وستتغير الكثير من الثقافات والعادات بالممارسات الحياتية للبشر لفترات طويلة، مثل استخدام أدوات الوقاية التي أصبحت دول عديدة تلزم المواطنين باستخدامها عند خروجهم لأعمالهم أو لقضاء احتياجاتهم المعيشية من ارتداء الكمامات والقفازات إلى استخدام المعقمات، وأصبح الذهاب للمجمعات التجارية يتطلب تجهيزات من نوع غير معتاد للوقاية، إضافة للفحوصات التي تنتظر مرتاديها عند البوابات، وتلوح شركات الطيران أيضًا باتخاذ إجراءات مختلفة للتأكد من عدم وجود مسافرين عليهم أي أعراض تضعهم بدائرة الاشتباه بإصابتهم بالفيروس؛ فكل هذه العوامل، وما سببته هذه الجائحة من تأثير بالغ بالاقتصاد العالمي، لم تعد خفية على أحد، ولكن الجميع يسأل: ماذا سيحدث في المستقبل للاقتصاد بعد انتهاء الجائحة؟ ولذلك انطلقت الكثير من القراءات للمستقبل. ورغم اتفاقها على فداحة الضرر الاقتصادي لكن الاختلاف كان بمدة بقاء هذه الأضرار وحجمها، وأي الدول أو القطاعات ستكون أكثر أو أقل تضررًا.
فالأزمة أساسها صحية، والتداعيات اقتصادية واجتماعية، وبدأت تتحول لسياسية من خلال التصريحات والمطالبات من أمريكا وبعض الدول الغربية باتخاذ إجراءات ضد الدولة المتسببة بالأزمة، ألا وهي الصين؛ إذ يرونها لم تقم باتخاذ تدابير تمنع تفشي الوباء عالميًّا، إضافة إلى اتهامات بإخفاء معلومات الفيروس في بدايات انتشاره بالصين، لكن اللافت أن الإجابات عن السؤال الأهم: ماذا سيحدث للاقتصاد في المستقبل؟ بدأت تأخذ منحى أقرب للتنجيم من خلال التحليلات التي يطلقها غالبًا أفراد مختصون؛ إذ يضعون توقعات شبه جازمة بتوقع حدوث انهيارات مالية وإفلاسات ضخمة، ويضعون مددًا زمنية طويلة حتى تنتهي التداعيات الاقتصادية التي تحولت لأزمة، لكن كل هذه التوقعات التي تنشر باقتضاب على مواقع التواصل الاجتماعي لا تستند إلى عمق تحليلي أو أسس واضحة؛ فهي في غالبها مبنية على التقاطات من تقارير تنشر يوميًّا بزخم كبير من جهات عديدة، رسمية وخاصة، إضافة لانطباعات شخصية، يقودها أحد عاملَين نفسيَّين، يشترك بهما كل البشر «الخوف والطمع». فمع الحالة الكئيبة عالميًّا لا يمكن أن تكون القراءات والتوقعات إيجابية أو واقعية، بل هي سلبية بالمطلق، وكأنه لن يكون هناك نور في نهاية النفق الذي يسير به العالم حاليًا. فالتحليل الاقتصادي هو علم واسع المجال، ويعتمد على معايير ومعلومات دقيقة حتى يتم استنباط أو استقراء النتائج التي تظهر التوقعات المحتملة. فالتشخيص الدقيق يتطلب اختبارات ومعلومات هائلة للوصول للوصف الحقيقي للمرض، والانتقال لمعالجته. وهذا ما تقوم به الدول عمومًا، لكن عندما تقرأ توقعات من مصادر إما فردية أو غير معروفة فإنها لا يمكن أن تكون دقيقة، وهي أقرب للتنجيم، وخصوصًا مع ذلك ما يرافق الشعوب في الأزمات المظلمة من حالة نفسية سلبية؛ فالجميع يريد أن يعرف ماذا سيحدث؛ لذلك تكثر مثل هذه التوقعات، وتصبح الساحة مليئة بالمجتهدين؛ لأن الجهات الرسمية أو الخاصة ذات الخبرات الواسعة لا يمكن أن تدلي بأي توقعات إلا وفق المعايير العلمية الدقيقة التي تستند لها، وبناء على معلومات هائلة يصعب جمعها من قِبل الأفراد على وجه الخصوص. فلا يمكن توقُّع ما سيحدث بعد عام، فكيف يضع البعض توقعات لأعوام عدة قادمة مما لا يمكن أن يكون ضمن منطق التحليل العلمي؟!
فحتى المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي يغيّر توقعاته بفترات قصيرة ربعية، وحتى شهرية، رغم كم المعلومات الهائل لديه، والخبرة والمنهجية اللتين يمتلكهما. والأمر ذاته ينطبق على المؤسسات المالية العالمية ذات الخبرة الواسعة في الأبحاث والدراسات.. فهذه الأزمة غير مسبوقة بحجمها وطبيعتها خاصة؛ وهو ما يصعب معها بناء توقعات ليست مبنية على إدراك كامل للتداعيات. ففي علم الإدارة هناك مقولة شهيرة: «ما لا يمكن وصفه لا يمكن قياسه، وما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته، وما لا يمكن إدارته لا يمكن تطويره». فكيف يمكن فهم كل الأضرار التي حدثت في الاقتصاد حتى يمكن القياس على أساسها لمعرفة حجم الضرر وطريقة إصلاحه والمدة الزمنية اللازمة لذلك؟! فإطلاق هذه التوقعات الفردية لا يمكن الأخذ بها إذا لم تستند إلى مرجعية واضحة ومعلومات دقيقة. ومن يراقب تقارير المؤسسات الدولية منذ بداية الأزمة يجد فيها تغيرات عديدة بين فترة وأخرى مع كل ظهور لمعلومات جديدة؛ فالمهنية تقتضي التروي والدقة، وليس الانطلاق لفضاء التوقعات. فما يمكن أن تضعه من قراءة لم تستوفِ معايير مهنة التحليل قد يؤثر بقرارات أشخاص يأخذون على أساسها قراراتهم الاستثمارية؛ وهو ما قد يتسبب بضرر كبير لهم إذا حدث عكس ما طُرح من اجتهادات غير موفقة.
الأساس هو الأخذ بالتقارير والتوقعات الصادرة عن جهات رسمية وعريقة، تستند لمعلومات واضحة ومذكورة بالتقارير، وليس التأثر بآراء واجتهادات فردية، أو لا تتضمن ما يمكن أن يكون مقنعًا من بيانات ومعلومات.. فالعالم يواجه أزمة غير مسبوقة، لكن في الوقت ذاته سيضخ ما بين سبعة إلى تسعة تريليونات دولار أمريكي من قِبل الاقتصادات الكبرى بالاقتصاد العالمي، وهذا سيكون له دور هائل في استيعاب التداعيات، وسرعة معالجتها، وتقليص المدة اللازمة للتعافي، وخصوصًا أن دولاً عديدة بدأت تعيد فتح اقتصادها بقصد العودة للحياة الطبيعية في تنسيق دولي واضح لحد كبير بعد أن تم استيعاب ومعرفة الكثير عن هذا الوباء، وحصر أضراره، واتخاذ التدابير اللازمة للتغلب عليها.. فلا يجب أن يغيب عن التحليل الإجراءات التي اتُّخذت للتصدي لها، وخصوصًا أن الكثير من مفاصل الاقتصاد العالمي ما زالت قوية، وعلى رأسها النظام المالي. فمع الحرص والحذر والتأني باتخاذ القرارات لا بد أيضًا النظر لما بعد الأزمة بعين مختلفة، تتماشى فيها النظرة مع المستقبل وفق ما يرشح من معلومات دقيقة ودراسات يعتد بها.