د. جمال الراوي
كنت برفقة أحدهم، من المولعين بالتجارة؛ لأنه كان يمارسها منذ طفولته، ويعرف مداخلها ومخارجها. فذهبنا سوية لشراء سلعة من السوق، فطلب البائع ثمنًا لها، فهممت على دفعه، فوكزني، وقال لي: (الحقني، سأشتريها لك بنصف سعرها). لم أصدقه؛ لأني كنت أعرف قيمتها في السوق. فتبعته، ومررنا على محال عدة، استطلع فيها الفوارق في أسعار السلعة، حتى وصلنا إلى أحدها، وأخذ يفاصل البائع في السعر حتى اشتراها منه بنصف ثمنها، وأنا في حالة من الذهول؛ لأن البائع اكتشف حرفية الرجل، وقدرته على كشف حقيقة سعرها، والأرباح التي يجنيها التاجر منها.
كنتُ أتردد على أحد المحال؛ لأشتري منه ما أحتاج إليه، وتوطدت بيننا علاقة صداقة، وكان يبدي لي تعاطفه وتودده، ويُشعرني بأنه يكرمني بأسعار سلعه المميزة، ويقول لي دائمًا بأنه يبيعها لي بسعر مخصوص، فلم أفكر في البحث عن حاجتي عند غيره، ولكنني في هذه المرة لم أجد ما أريده عنده؛ فاضطررت أن أبحث عند غيره؛ فوجدت الأسعار أنقص بكثير مما كان يبيعني، وصعقت أكثر عندما وجدت أحد المحال يبيعها بنصف السعر الذي كان يبيعني إياها؛ فدهشت لهذا الاكتشاف، وشعرت بالغبن، وقلة درايتي وخبرتي، وعرفت أن للتجار والباعة أساليبهم وطرقهم في إيهام الزبائن والإيقاع بهم.
علم المفاصلة في البيع والشراء، أو ما يسمى «المماكسة» أو «المساومة»، سببه عدم ثبات الأسعار؛ تذهب إلى السوق لتشتري حاجتك، وأنت تشعر بأنك سوف تدخل ميدانًا للتذاكي والاستغفال.. تقضي وقتًا ضائعًا، تحاول أن لا تقع في الغبن بسبب ارتباط مهنة البيع والشراء بأمزجة التجار، والدخول معهم في مفاوضات قاهرة وعسيرة؛ علّك تقتطع من جشعهم شيئًا من المال الذي يريح أعصابك، ويجعلك تشعر بالراحة لصدق التعامل في الشراء، ويخلصك من الصراع النفسي الذي تشعر به عندما تدخل في جدال مع أحد البائعين، لكنك لا ترتاح أيضًا عندما ينزل التاجر في الثمن الذي يطلبه منك في بداية الأمر، وتشعر مرة أخرى بالخداع والمكر الذي انكشف لك لو كنت قد اشتريتها منه منذ الوهلة الأولى.
ورد عن السلف الصالح أنهم يرون من الأفضل ترك المفاصلة أو المماكسة مع التجار؛ يرونه من باب كمال الأدب والمروءة؛ لأنهم يرونها من خوارم المروءة ونواقصها؛ لأن تجار ذلك الزمان كانوا من أهل التقوى التي تردعهم عن غبن المشتري، وتردعهم عن الخلابة والخديعة، بينما يفتقد بعض تجار اليوم أخلاقيات مَن سبق؛ وهو ما يجعل الكثير من الناس تبالغ في المفاصلة والمجادلة التي قد ترتقي لدرجات الإذلال والإسفاف من قِبل الطرفين (البائع والمشتري).
كثيرًا ما تصادفنا مواسم التخفيضات التي تعلنها بعض المحال، ونسمع عن كذبها وخديعتها، وهي في واقع الأمر إحدى الوسائل التي ينتهجها تجار اليوم للإيقاع بالمشترين. وقد تصادف أن اشتريت سلعة من أحد المحال، وعرفت بعد أسابيع أنه أعلن تخفيضات؛ فتوجهت إليه فوجدته قد زاد في سعر السلعة نفسها كثيرًا، ثم كتب بجانبه سعره الجديد بعد التخفيض، فوجدته أعلى من سعره قبل أسابيع. فقلت له إنني اشتريت السلعة نفسها قبل أسابيع بسعر أقل، وذكّرته بالواقعة، فأدار ظهره لي، ولم يعبأ بما قلته له، وقد نويت أن أتصل بجمعية حماية المستهلك، لكن سوف يوقعني ذلك في حرج كبير.
نصادف في عالم اليوم ثقافة ظاهرة الخديعة في البيع والشراء؛ فنسأل عن سبب تفاوت الأسعار؛ فيقول التاجر إن ذلك يعود إلى جودة تلك السلعة وصناعتها عن الأخرى، بينما تكتشف أنه قد خدعك فيما قال.. أو يقول لك إنه وجد الطيبة في وجهك وملقاك فباعك السلعة بثمن أقل.. أو يقول لك إنه يريد أن يستفتح نهاره بك، وغير ذلك من معاني ومصطلحات بائسة، لا تجد فيها السماحة والصدق وحسن التعامل؛ فتكتشف أنه يلجأ إلى أساليب الغش والخداع للإيقاع بك، ولا يعرف أنك تشعر بغياب الصدقية في كلامه.. والويل كل الويل لك إن كنت ذا طبع خجول؛ لأن فراسة التاجر سوف تكتشف ذلك، وسوف يبيعك سلعته بالسعر الذي يريد!!.. والويل كل الويل إن كنت من المتعجلين في الشراء، ولا تملك الخبرة الكافية في فن المساومة؛ فحينها سوف تندم، وستهجر السلعة التي اشتريتها وتكرهها نفسك؛ لأنها تذكِّرك على الدوام بالغبن الذي أصابك.
من مساوئ عصرنا الحالي أن بعض جمعيات حماية المستهلك عاجزة عن حماية المستهلك، وأن القوانين قاصرة على الحد من الغش في التجارة؛ فيضطر المشتري المسكين إلى ثقافة المفاصلة والمساومة التي تنجح في بعض الأحيان، لكنها تفشل في مواقف كثيرة، وهي ثقافة مسيطرة على الأسواق، لا تجد سبيلاً للخلاص منها؛ لأنها مرهقة للنفس، ومتعبة للضمير، لا تستطيع أن تتقن فنونها.. وهذا هو الحال نفسه مع المحال الكبرى التي تمارس الدور نفسه في إيهام المستهلك واللعب بالأسعار!!