د.فوزية أبو خالد
مثلما شغل سؤال «الفن للفن أو الفن للحياة» بال الكثير من المفكرين والكتاب وأشعل نقاشات تراوحت في حدتها ولينها بين أنصار الفن للفن وأنصار الفن للحياة في قارات عدة خاصة في أوربا منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر إلى ما بعد منتصف القرن الماضي، وكان من أبطالها فلاسفة وشعراء ومفكرون من كانط لسارتر ومن جوته إلى إليوت, فإن سؤال هل الحياة للحياة أو الحياة للآخرين هو السؤال المقلق الجديد الذي باتت تطرحه الجائحة اليوم على كل منا ببعديه الفلسفي والسيسيولوجي معًا مع فتح المجال لتعدد إجاباته العلمية وإجاباته الذاتية واجتهاداته الشخصية أيضًا، لأن طبيعة السؤال تجعله أكثر انفتاحًا علينا جميعًا وأقرب إلى عموم الناس وليس حكرًا على المشتغلين بالفن والأدب والثقافة كسؤال الفن والحياة. فسؤال الجائحة اليوم إذن هو سؤال هل الحياة للحياة أو الحياة للآخرين، وهو سؤال ملغم بمواجهتين صعبتين. الأولى هي أن السؤال يضع الفرد في مواجهة الجماعة كما يضع المجتمع في مواجهة الدولة. وإذا كانت هذه المواجهة مواجهة قديمة قدم النظام الاجتماعي والاجتماع البشري نفسه وطبيعته التي تتحدد بها تلك العلاقة وتتعدد أطيافها تاريخيًا من النظام القبلي الموغل زمنيًا والموغل في تذويب الفرد في الجماعة وتشكيله وفق مصالح العصبة بتعبير بن خلدون الأب الأول لعلم العمران (علم الاجتماع) إلى النظام الرأسمالي المؤسس على فردية ضارية تصل حد التغول الذي تتبدى أقسى تجلياته اليوم في العواصم الرأسمالية العتيدة بظاهرة «الهومليس» وهم من لا مأوى لهم, فإن الجائحة تقترح إعادة النظر في تلك المواجهة وإعادة التفكير فيها على مستوى علاقة الفرد بالنظام الاجتماعي وبالتالي علاقة الدولة بالمجتمع, مع مساءلة الأنظمة الغربية الرأسمالية عن مسؤوليتها في المآلات الموحشة للفرد. وما مظاهرة رص النعوش على الرصيف المقابل لبرج ترامب بنيويورك يوم الأحد هذا الأسبوع إلا تعبير عن ارتفاع حدة هذه المساءلة الموجهة رمزيًا لترامب في عجز النظام الرأسمالي والإدارة الأمريكية الحالية عن حماية الفرد من المضاعفات الاجتماعية لوباء الكورنا. فعلى مستوى النظام الصحي تبدت فداحة الأمر وحدة المساءلة في نشر صحيفة النيويورك تايمز يوم الأحد 24- 5 -2020 على صفحتها الأولى اسم ألف من مفقودي الجائحة مع اقتراب عدد ضحايا كورونا في المجتمع الأمريكي لمئة ألف, تحت عنوان استنكاري لافت يقول: «هذه ليست مرد أسماء هؤلاء هم نحن أي الشعب الأمريكي برمته».
أما على المستوى الاقتصادي فكانت مساءلة الإدارة الأمريكية وبالتالي نظامها الرأسمالي في علاقة الفرد بالمجتمع بتلك الفردانية الموحشة الذي سمح لأمبراطورية مالية حوتية مثل والتديزني أن تسرح هذا العدد الكبير من العاملين فيها بعد أقل من ثلاثة أشهر لتوقفها عن العمل، فما بالك بالشركات والمؤسسات الأخرى الأقصر تاريخًا والأقل أسطورة مالية. وهذه المواجهة وإن أخذنا أمثلتها من المساءلات الأمريكية التي تجلت في الصحافة النقدية وفي المظاهرات للعلاقة بين الفرد والمجتمع وبين علاقة الدولة بالمجتمع, فإنها تطرح مساءلات في السياق نفسه على الكثير من مجتمعات العالم عبر الكرة الأرضية على أثر الجائحة وبتأثيرها. مما قد يؤدي في مستقبل ما بعد الجائحة إلى تغيير في الصيغ القائمة لعلاقة الفرد بالمجتمع وعلاقة المجتمع بالدولة على أسس أقل تذويبًا للفرد في الجماعة وفي الوقت نفسه أقل استفرادًا بالفرد مقابل الدولة والمجتمع. وقد بدت بوادر هذا التغيير من المواقف والأصوات الناقدة للتعامل مع الجائحة بنظرية القطيع.
تبقى المواجهة الثانية التي خلقتها الجائحة في المجتمع العالمي اليوم وهي المواجهة بين العالم الواقعي وبين العالم الافتراضي. فمن اللحظات الأولى للكشوف التقنية الجديدة للقرن الواحد والعشرين ومع تقدمها الجائحي خلال العشرين سنة الماضية منه ونحن نرى تحولاً تدريجيًا ولكنه سريع جدًا عبر الشبكة الإلكترونية للاتصال في العلاقة بين الفرد والمجتمع وبين المجتمع والدولة. وهذا التحول قد يقود لخلق حالة عالمية عامة تسمى الوطن الافتراضي والعمل الافتراضي والتعليم الافتراضي والعلاقات الافتراضية مما قد لا يُبقي العلاقات على حالها الأولى سواء كانت علاقات رأسية في علاقة الدولة بالمجتمع أو علاقات أفقية في علاقة الفرد بالمجتمع وبالقوى الاجتماعية الأخرى. وربما يتطلب ذلك مثل ما أشار مقال الزميل المهندس مشاري النعيم إلى خلق تقاليد جديدة لتلك العلاقات, غير «التقاليد الموروثة» وقواعد للتعامل غير القواعد القائمة. فمن يدري فقد يتغير في هذا السياق حتى شكل ومحتوى وأسلوب ما يعرف اليوم بالنظام السياسي الديكتاتوري ككوريا الجنوبية وإيران أو «النظام السياسي الديموقراطي» كأمريكا وأوربا.
لقد أثرت الجائحة اليوم تأثيرًا كبيرًا في توسيع نطاق وفي تسريع وتيرة التعامل مع التقنية الحديثة كنوافذ جديدة للعلاقات الاجتماعية لا تخلو من مخاطر العزلة بإيجابيتها وسلبيتها. فلم يعد حكرًا على الشباب استحواذهم على منصات التواصل الاجتماعي ولم يعد حقهم السري وحدهم إقامة شبكة علاقات اجتماعية في العالم الافتراضي تفوق متانة علاقتهم على أرض الواقع أو توازيها. فعلى سبيل المثال, التجربة التي خاضها آلاف الآلاف من الأسر السعودية والمسلمة عمومًا للمعايدة وللقاءات العائلية الافتراضية عبربرامج الإنترنت المختلفة لمثل هذه اللقاءات الافتراضية قد أدخلت الأسرة طرفًا جديدًا في العلاقات المستجدة والمرشحة للمزيد من التغيير بين العالم الافتراضي وبين الواقع.
وهذا ينطبق على توسع دائرة «الجمهور المعرفي» في الحضور عبر اللقاءات الافتراضية وبدء إنشاء علاقات معمقة عبرها، فبسبب الجائحة لم تعد إقامة تلك اللقاءات وحضورها حصرًا على عالم المعرفة الأكاديمية بل دخلت الثقافة والأدب طرفًا على الخط الافتراضي نفسه. ولا أظن أنه كان للنشاط الأدبي تحديدًا والثقافي على وجه العموم ما قبل الجائحة والحجر الوقائي مثل هذا الحضور الموسع باحتمالاته المفتوحة على المستقبل.
وأخيراً في تجربتي الشخصية:
كانت اللقاءات الافتراضية التي طرحتها بعنوان إكسير الشعر في مقاومة الجائحة تجربة ملهمة لي في سلسلتها الأولى والثانية. فبدل انتظار هذه المؤسسة الأدبية أو تلك الجهة للتكرم بإقامة أمسية شعرية في رجاء قد يستغرق أعواماً وجدت نفسي في لقاء افتراضي مع عشر شاعرات متجذرات في تاريخ الحركة الشعرية الحديثة بالوطن العربي مع نقاد متخصصين في أمسية شعرية بلمح البصر من الشاعرة العريقة د. سلمى الجيوسي إلى الشاعرة المتجددة هدى الدغفق وما بينهما من أطياف شاعرات عريقات في غواية الشعر, وكذلك من أستاذة النقد الأدبي بالجامعة الأمريكية ببيروت د. حُسن عبود إلى أستاذ النقد المقارن أ.د. سعد البازعي.
أما على المستوى الأسري فقد وجدت نفسي صباح العيد في لقاء افتراضي ثر وثري مع أشقائي وشقيقاتي العشر وعمي عبدالعزيز وعمتي موضي وخالي هاشم وخالتي راية وأسرهم ومع البنات والأبناء والأحفاد عبر قارات عدة وفي مدن مختلفة داخل المملكة وخارجها, بما لم يكن أي منا كأسرة أن نخوض تجربته لولا ظرف التباعد بسبب الجائحة.
والسؤال الذي يطرحه هذا التغير الجاري في علاقة الفرد بالمجتمع والمجتمع بالدولة تحت وطأة الجائحة هو: هل سيكون هذا التغير مجرد طارئ لظرف الجائحة ثم يجري التراجع عنه والعودة أدراجنا من العالم الافتراضي للعالم الواقعي أم أن الأمر له نهايات مفتوحة؟
مع الابتهال لله بأعياد مديدة قادمة مفعمة بالصحة والحب وبدفء المصافحة والأحضان نكاية في كورونا.