د. حسن بن فهد الهويمل
مصطلح (المْابَعْدِيَّات) مصطلح شاع، ثم شاه. سكَّه المغرمون بسك المصطلحات بعد صيحة (العولمة) و(الحداثة) وانطفائهما.
وكل مذهب يشغل الناس، ويلهيهم عن كل مفيد، ثم يكون هشيماً تذروه الرياح، يبدأ المعَذِّرون، والمبررون بـ(المَابَعْدِيَّات) حتى لكأنما التبرير وَرَقٌ يخصفه كل فاشل، ليواري به سوءاته.
توقعات (المابعديات) تتحدث عن حتمية التغيير، حين ينجلي الحدث، وقد تكون تساؤلاً عمّا يُتوقع حدوثه.
عالم ما بعد هذا الوباء مجهول الهوية، والمصير، لا أحد يراهن على كيفية ما سيحدث، ولكن الجميع لهم توقعاتهم المرتبطة بأحوالهم، وأجوائهم. هناك تفاؤل باذخ عند فئة، وقنوط مُيْئس عند فئة أخرى، وقليل مَنْ يتلمس المؤشرات، دون مبالغات، ويتوقع التغيير دون بذخ، ثم لا يراهن على شيء. هذا (الوباء) عذاب لقوم، ونذير، أو ابتلاء لآخرين. وكل أمة حلَّ بساحتها تقرؤه وفق إيمانها، وعقليتها، ورغبتها، وخلفياتها الثقافية.
والقراءات -هي الأخرى- تكشف عن مؤمن، وكافر. مُدَّكر، وغافل. عاقل، وسفيه. وكم من فئة لا تغنيها الآيات، والنذر. ومن ثم لا تفكر بشيء، على سنن: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} و{وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا}.
وكم من قائل بكل صفاقة، وحماقة: تلك قوانين المادة. كالمطر عند راصد الأنواء. والكسوف عند عالم الفلك. والقر، والحر عند عالم الطقس: (صَدِّقَ الشَّرْعَ ولا تَرْكَنْ إلى... رَجُلٍ يَرْصُدُ فِي اللّيْلِ زُحَلْ).
إن الكون عند أولئك الصُّم، البُكْم، العُمْي مادة تتقلب ذاتياً، لا خالق لها، ولا مدبر لأمورها. وكم من قائل بعد الحدث، أصبح بقوله مؤمناً، أو كافراً، كما في حديث: (أصْبَح مُؤْمِنٌ بي وكافر).
وأعجب شيء (ملحد) يتأوه عند احتباس السبيلين.
- ماذا يقول، وبمن يستغيث؟
: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور}.
: (مُفَتَّحةٌ عُيُونُهُمُ نِيَامُ).
إنها نومة الغفلة، وسكرة الشهوات، وحيوانية الغرائز، وتأليه الأهواء.
لقد اجتاح هذا (الوباء) العالم كله: مؤمنَه، وكافرَه. غنيَّه، وفقيرَه. متحضرَه، ومتخلفَه. عالِمَه، وجاهلَه. قويَّه، وضعيفَه. وكل هذه العوالم الثلاثة خافت، وذلَّت، وارتبكت، وخسرت، واختلطت عندها الأمور.
كان حضور الإسلام فاعلاً، وحضور المسلمين شاهداً. ولم يكن موقف الإسلام بنصه، وأهله متخاذلاً، ولا متخلفاً، إنه حضور الوعي، والإيمان بالخالق، المدبر، الحكيم. لقد استحضر العالم كله ابتهالات المسلمين، وفرارهم إلى الله.
ولكنهم عرفوا الله، كمعرفة المشركين حين ركبوا في الفلك، وبقي أن يعرفوا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، لا صراط الذين غضب الله عليهم، ولا صراط الضالين.
جهلة المسلمين، وجُفاتُهم يقرؤون عشرات المرات في اليوم الواحد شوطين دلاليين، من أغنى الأشواط القرآنية، بل هما جماع القرآن كله:
- شوط (العبادة، والاستعانة) {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين}.
- وشوط (الصراط: المستقيم، والمعوج) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين}.
ثم لا يكون انعكاسها على أعمالهم، وعبادتهم بالقدر الكافي.
نجد من يعبد غير الله، أو يستعين بغير الله، أو يتبع سنن المغضوب عليهم، والضالين حذو القذة بالقذة.
هذا العقاب، والعتاب، والابتلاء، والامتحان الذي ضرب الصحة في الصميم، وضرب مفاصل الاقتصاد، ودمَّر العامل في السوق، والتاجر في قصره المشيد، والزعيم وراء ترسانته العسكرية الرادعة، والعالم في مختبره، ومعمله، بل دمَّر كل شيء أتى عليه، لا يمكن أن يرحل دون أن يترك آثاراً في النفوس، ستغيّر مجرى الحياة.
الماديون الملحدون وحدهم الذين لن يكترثوا، ولن يتغيّروا، لأن مناطهم المادة، وهي عمياء صماء، خرساء، لا تعقل، محكومة بقوانينها، وسننها حسب ظنِّهم الذي أرداهم، والإنسان فيها دمية مُسَيَّر، لا مُخيَّر.
أما المؤمنون الذين تلقوا الأمانة، وحملوها على وجهها، فسيراجعون أنفسهم، ويحاسبونها، ثم يبدؤون بالتفكير في المنهج السليم.
أن يخسر العالم، وأن يضعف أمام عظمة الخالق، ثم لا تكون توبة، ولا أوبة فأمر في منتهى الخسار، والبوار، والارتكاس، والانتكاس.
اللهم ألْهمنا التقوى، وثبّت أقدامنا، واربط على قلوبنا، وغيِّر ما بنا إلى الأحْسَن.