عبدالمجيد بن محمد العُمري
وردت كلمة (المحسنين) في القرآن الكريم في ثلاثين موضعًا، ذكر الله فيها محبته لهم، وقُربه منهم، وعظم جزائهم، وحفظ حقوقهم، وتبشيرهم بما يسرهم، وإنقاذهم من الشدائد والمحن.. يقول الله -عز وجل- في كتابه الكريم {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}، وقال ابن القيم -رحمه الله-: «إنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة منهم لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين، وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الإحسان؛ لأن الجزاء من جنس العمل؛ فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته».
والإحسان باب واسع، وهذا من فضل الله تعالى على عباده، يدخل فيه من بذل ماله، ومن بذل جاهه وسعيه، ويدخل فيه من بذل وقته وعمل لهذا الإحسان، والدال على الخير كفاعله.
وما أكثر قصص الإحسان وأروعها. ومن القصص الغريبة والعجيبة والمباركة التي لا أزال أذكرها، وقد استمعت إليها من أحد أطرافها، هو ما وقع بين أطراف أربعة، ماتوا جميعًا، وبقي أثرهم المبارك.
حدثني الشيخ عبدالرحمن بن رشيد العوين -رحمه الله- في عام 1418هـ قائلاً: حينما كنت ملحقًا دينيًّا في نيجيريا، وموفدًا من رئاسة الإفتاء، جئت مع وفد من مشايخ نيجيريا لعرض مشروعهم الذي يرغبون في البدء فيه، وهو إنشاء كلية إسلامية، وكانت المحطة الأولى بكل تأكيد مع الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- الذي فتح قلبه ومنزله ومكتبه لنا، وكان الغداء الأول للضيوف في منزله وعلى مائدته، وأوصى القائمين على المشروع بتقوى الله، وأيدهم، وكتب لهم شفاعة إلى عدد من المحسنين، واتصل بهم هاتفيًّا، وأوصاني بأن أزور مَن جرى التواصل معهم، خاصة الذين أبدوا استعدادهم للمساهمة في المشروع، وكان من بينهم الشيخ عبدالعزيز بن موسى -رحمه الله- وهو أحد تجار العقار المشهورين بمدينة الرياض، وقد علمت قبل زيارتنا له بأنه أبدى استعداده للتبرع بثلاثين ألف ريال، وكانت سعادتي والضيوف غامرة لأنه مبلغ جيد. وحين ذهبنا للسلام عليه وشكره والدعاء له قدمنا شرحًا كاملاً عن المشروع، وقلت له إني مقيم في نيجيريا مندوبًا للإفتاء والدعوة، وقد وقفت على المشروع بنفسي، ثم استأذنا منه فطلب منا التريث، ودخل إلى المحاسب، ثم عاد وسلمني الشيك، وقال: حررته باسمك، وبلّغ سلامي للشيخ ابن باز. فشكرناه، ودعونا له، ثم توجهنا للسيارة، وحينما خرجت من باب مؤسسته في حي العليا، ونظرت للشيك، إذا المبلغ قد سُجل ثلاثمائة ألف ريال، وليس ثلاثين. فسكتُ، وطلبت من الضيوف أن ينتظروني بالسيارة، ولم أخبرهم بشيء، وعدت للشيخ عبدالعزيز الموسى، وقلت له: يا شيخ عبدالعزيز، يبدو أن المحاسب قد غلط فسجل ثلاثمائة ألف بدلاً من ثلاثين. فقال: ليس هناك غلط، وأنا الذي طلبت من المحاسب أن يحرر هذا المبلغ تقديرًا لسماحة الشيخ ابن باز أولاً، ثم إن قدومك معهم وإطلاعي على المشروع وأهدافه جعلني أضاعف المبلغ. فهممت بتقبيل رأسه فأبى حتى سحبت رقبته بالقوة، وخرجت مسرعًا لأزف البشارة لأهل المشروع، وأبلغهم أن المبلغ تضاعف عشر مرات؛ فهللوا وكبروا والدموع تغالبهم، وذهبنا للجميح، وللسبيعي، والراجحي، وجميعهم لم يقصروا في دعم المشروع والدعاء لنا بالبركة والتوفيق. وقبل أن يعود الوفد لبلادهم أخبرت الشيخ ابن باز بما حصل فدعا للمتبرعين جميعًا بالخير والبركة، وثنى بالاتصال على ابن موسى، وشكره على هذا الموقف.
ويقول الشيخ العوين: بارك الله في مشروعهم -ولله الحمد- بفضل الله أولاً، ثم بفضل جهود العاملين وصدقهم وإخلاصهم، ثم بدعم هذه البلاد المباركة المملكة العربية السعودية حكومة وشعبًا، وهذا المعروف. كما تضاعفت المبالغ التي قُدمت له، ونما، وزاد، فلا يزال أثره باقيًا. وبإذن الله تعالى أجره المضاعف عند الله لكل من بذل وسعى وعمل، والله لا يضيع أجر المحسنين، وصدق الشاعر أحمد شوقي حين قال:
وكل سعي سيجزي الله ساعيه
هيهات يذهب سعي المحسنين هبا
إن قصص الشيخ عبدالعزيز بن باز مع أهل الخير والمحسنين كثيرة جدًّا، ولكن هذه القصة أنقلها لكم كما سمعتها مباشرة من الشيخ عبدالرحمن بن رشيد العوين -رحمه الله- في مكتبه، وهو من رجالات الدعوة الذين عملوا مع الشيخ ابن باز، ومن قبله مع الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمهما الله-، وكانت له جهود كبيرة ومتعددة في فتح عدد من الملحقيات الدينية، أبرزها افتتح أول مكتب دعوي في إفريقيا بنيجيريا، وكذلك مكتب المستشار الإسلامي في ماليزيا، والمشاركة في لجان تفقُّد المسلمين في الخارج، وتقاعد من العمل في منتصف عام 1419هـ، وكان قبلها معلمًا ومديرًا لعدد من المعاهد والمدارس، وحصل على دورة تربوية في أمريكا لمدة سنتين إبان عمله في التعليم؛ وهو ما أهَّله للمشاركة في الأعمال والمهام واللجان الرسمية في الخارج. وقد سبق أن عرضت عليه تدوين ذكرياته الدعوية قبل عشرين عامًا.
اللهم اغفر للباذل المنفق، وللوجيه الساعي، وللعامل على المعروف أجمعين، وارحمهم، وعافهم، واعف عنهم، ووسِّع مدخلهم، وأكرم نزلهم، وأسكنهم الفردوس الأعلى من الجنة.