أ.د.محمد بن حسن الزير
الإمام تركي هو تركي بن عبد الله، جده الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى، الذي قدم إمارته الصغيرة في الدرعية قربانًا لتحقيق كلمة التوحيد (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، ونصرة رسالتها في حياة الناس. وُلد في الدرعية عام 1183هـ في ظل أوج ازدهار الدولة السعودية السلفية، وفي ظل نهضتها الدينية العلمية التجديدية لمعالم الدين الإسلامي التي أوشكت على الاندثار في نفوس الناس وسلوكهم أو كادت، وتأثر في نشأته بهذه البيئة الدينية العلمية، وتربيتها الإسلامية الخالصة، وعايش عبق جذوتها الإيمانية، ونشوة مجاهداتها العملية في تطبيق التعاليم الإسلامية منذ نعومة أظفاره، وفي عنفوان شبابه. ومن حيث الإدارة السياسية كان في دائرة بيت الحكم السعودي وممارساته السياسية، كما كان أميرًا للرياض من عام 1225هـ إلى أن انتهى الدور الأول للدولة السعودية بسقوط الدرعية في شهر ذي القعدة عام 1233هـ. وبعد انتهاء عهد الدولة السعودية الأولى بعد مصالحة الإمام عبد الله بن سعود مع إبراهيم باشا مضحيًا بنفسه، مستهدفًا حقن دماء المسلمين، ومحافظة على الدرعية بلدًا وسكانًا، استطاع الإمام تركي مع أخيه زيد - بعون الله وتوفيقه، ثم بدافع من همة عالية، وعزيمة قوية - أن ينطلق بعيدًا عن قبضة أعدائه وأعداء دولته، وهي انطلاقة موفقة مفعمة بروح قوية متطلعة، يتراءى له خلال هواجسها نور من نور الله، بأن الله سيجعل له ولبلاده وأهله مخرجًا على يديه، وأن نجاته من قبضة أعدائه بشرى خير، وفأل حسن، وأن الله سيجعل له مخرجًا، وعسى الله أن يجعل عودة الحق إلى نصابه على يديه، وأن يعيد لدولته سيرتها الأولى
انطلق فارس الصحراء حرًّا طليقًا ليبدأ فصلاً جديدًا في تجربة مثيرة في أرجاء صحراء بلاده وأقاليمها العطشى للحياة الممراع في ضوء إشراقة شمس دولة الشريعة وأفياء أمنها وعدلها، وغاص يضرب في أعماق صحرائه ممتطيًا صهوة جواده يباريه سيفه الأجرب الصمصام، في رحلة العودة الميمونة بتوفيق الله وهداه، يكر هنا، ويكر هناك في عنفوان وشوق وأريحية. وعن الفارس والأجرب قلتُ:
من بعده تركي الذي جلاّ علا
لا ينثني أبداً ولا يتردد
حين استراب الخل من خلانه
وغدا الفتى عن خله يتبعّد
واستحكم البؤس الشديد بربعنا
والظلم ساد بحينا ويهدد
الأجرب الصمصام كان مبارياً
للسيد المقدام لا يتبعّد
تركي أعاد الأمن في فلواتنا
دَعْدٌ بها تسعى وترعى مَهْدَد
وقصد جنوب الرياض هو وأخوه زيد، واختفى متحيناً الفرص، وحين بلغه ما كان من أمر ابن معمر، من حيث نزوله الدرعية، ودعوته لنفسه، عاد إلى الدرعية ومعه أخوه زيد، أن يسعى لتحقيق مجد شخصي ذاتي لنفسه بالسعي للوصول إلى الولاية لشخصه، ولكن حين قدم الأمير (مشاري بن سعود) إلى الدرعية، وبايعه ابن معمر، بايعه الأمير تركي وناصره، ولكن ابن معمر نقض بيعته، واستعد بجنود كثيرة، ودخلوا الدرعية بغتة، وقبضوا على (مشاري)، وكان الأمير وقتها في الرياض، التي أقبل عليها ابن معمر بقوته، فما كان من تركي إلا أن يتركها، وأن يتوجه إلى الحائر ليعاود كرّه في مسيرته الظافرة، وتركي في جهاده لمناصرة الدولة وهو في الظل كان يقتفي سيرة أبيه (الأمير عبد الله بن محمد بن سعود)، وقد قال (الألوسي ص 132) عن أبيه وعنه: «وأما (محمد بن سعود) فمن أبنائه (عبد الله) وهو الذي نصر أخاه (عبد العزيز)، وقاتل معه أشد القتال، وقاتل الفرسان والأبطال، واشتهر بالبسالة والشجاعة. فكم من كتيبة كرّ عليها وقلّ جمعها. ثم قام مقامه ابنه (تركي) بن عبد الله الذي قاد القبائل إلى طاعته، وأمرهم بإقامة أركان الدين بعد أن تهاون أكثرهم بالصلاة، وتركوا الصيام، وعادوا إلى ما كانوا عليه من شعائر الجاهلية، فقاتلهم على ذلك حتى أذعنوا وأطاعوا».
وحين آلت إليه مهمة الإمامة وإعادة الدولة سيرتها الأولى عبر تطور الأحداث، بعد العدوان على (مشاري ابن سعود)، لم يتوان في كفاح متواصل في التصدي للمهمة الصعبة لإعادة الدولة السعودية بهمة عظيمة، وتضحيات جسام، ومواجهة حازمة، وشجاعة وإقدام جسور، في وقت قلَّ فيه الأخلاءُ، وكثر فيه الأعداءُ، كما ذكر في قصيدته الشهيرة. وقد وصفه ابن بشر بالنور الساطع والسيف القاطع (انظر1/213). ويقول الشيخ عبد العزيز في كتابه (لسراة الليل هتف الصباح ص 68-73): «.. وأسلمته أقداره إلى الصحراء خوفًا عليه من قتل الخصوم بعد أن فقد أهله وملكهم، ومن الصحراء والخيمة والجوع والظمأ والألم ورعي الغنم - كما قيل - جاء الإمام تركي ومعه الأمل الكبير، والثقة بالله، من قلب هذه المحن لا يملك إلا سيفه الذي قال فيه:
يومْ إن كلِّنْ من خويهْ تبرَّا
حطّيْت (الأجربْ) ليْ خَويٍ مبَاري
وأضاف الشيخ التويجري في الهامش: «قيل إنه لما رعى الغنم، وتزوج ابنة مضيفه، كان شابًّا حالمًا، وقيل إنها كانت هي أيضًا ترعى الغنم. هذا الأمر المتواتر يدعمه أن عشيرتها زاروها في الرياض بعد أن استعاد الإمام تركي دولته، فإذا هي ساكنة قصرًا، وله حشم وخدم وحراس، فلم يتيسر لهم أن يروها فقالوا قصيدة مطلعها:
يالله يا الي حطيت (لهويدية) بيت
إنك ترد (هويدية) في غنمها».
ومن الحائر ثم ضرما بدأت انطلاقة الإمام تركي الواثقة الموفقة نحو الدرعية، ثم الرياض، مرورًا بجولاته وواقعاته تجاه الترك وعساكرهم ومن عاونهم، من الحلوة فعرقة فضرما، ويقول ابن بشر: «ولم يزل يتنقل في العربان والبلدان، ثم نزل بلد الحلوة، فلما أراد الله تمام نعمته على المسلمين، وحقن دمائهم، وجمع شملهم، رحل بمجموعة رجال من الحلوة، وقصد بلد عرقة، وثبته الله ونصره، وحارب الترك وغيرهم»، إلى أن انتهى به الأمر إلى دحرهم والانتصار عليهم وتطهير البلاد من فظائع الترك وشرور قادتهم من أمثال (أبوش أغا وخليل أغا وحسين بك وأبو علي البهلولي المغربي وحسن أبو طاهر ومحمد أغا)، وكان ذلك في رمضان عام 1238هـ. ولم تنتهِ سنة 1240هـ حتى تمكن من طرد الغزاة من بلدان نجد والرياض، وأطفأ الله على يديه الفتنة في سدير ونجد، واستتم له الأمر.
وقد اشتُهر رحمه الله بالشجاعة والإقدام، ولُقب براعي الأجرب (وهو اسم سيفه)، وتميز بالتدين والحنكة ورجاحة العقل وسداد الرأي. مات شهيدًا في يوم الجمعة 30 ذي الحجة عام 1249هـ.
وقد سار في رعيته سيرة عادلة رحيمة؛ يدلنا على هذا الجانب من شخصيته مواقف عدة، منها مواقفه الكريمة الرحيمة بابن أخته (مشاري) بن عبد الرحمن بن مشاري بن سعود، وعنايته لما جاء هاربًا من مصر، وقدم على خاله تركي بن عبد الله في الرياض فأكرمه وأعطاه عطايا جزيلة، واستعمله أميراً في بلد منفوحة، ولكنه غدر به في نهاية الأمر، كما سجل التاريخ. ومن ذلك خطبته في أواخر حياته في غدير وثيلان، وتحذيره من ظلم الرعية أو تكليفهم؛ وهذا يدلنا على طبيعة شخصيته الطيبة الكريمة، ويضع يدنا على ما تتحلى به من تدين وخلق فاضل ونبل.
كما كانت شخصية غنية بالعواطف ورهافة الحس والذوق الأدبي؛ وهو ما تجلى في قصيدته الشهيرة التي كشفت لنا ما يتمتع به من شاعرية فطرية، وقدرة أدبية، تجلت أيضًا في خطابته.
وللحديث صلة.