عبد العزيز الصقعبي
أجلس على مقعد الطائرة، أربط الحزام. لم أختر أن أكون بالقرب من النافذة، ولكن هذا ما حدث. لا يهمني المكان مطلقاً. يجلس رجل بجانبي على المقعد الأوسط من ثلاثة مقاعد. يسلم بصوت منخفض جداً، أكاد لا أسمعه. أرد عليه بهمس. يُخرج من حقيبة صغيرة كتاباً، ويضع الحقيبة أسفل المقعد الذي أمامه، ويبدأ بقراءة كتاب معه. يحتل المقعد الثالث بقرب الممر رجل بشعر أقرب إلى البياض، يلبس بدلة. غالباً من أوروبا؛ ملامحه توحي بذلك. الرحلة تستغرق ساعتين، أعتقد ذلك. ركاب الطائرة يتجهون إلى مقاعدهم. أتابع باهتمام حركات الناس والمضيفين، أراقب توجيهاتهم. لا شيء لدي أعمله، لا أحمل كتاباً، وليس لدي رغبة بالقراءة هذا اليوم، وليس لدي رغبة أن أغمض عيني وآخذ غفوة، كما الرجل الأوروبي. الرجل الذي يجلس بجانبي كان حظه أن يكون في الوسط بين رجل نائم، وآخر فاضٍ، وليس لديه رغبة بالنوم، لكنه بكل تأكيد لم يأبه بذلك؛ ما يعنيه أن يستغل وقت رحلة الطائرة بالقراءة. لم يوزعوا سماعات أذن، ولا توجد شاشات باستثناء الشاشات الصغيرة التي تغلق بعد انتهاء عرض التعليمات.
أغلقتُ هاتفي المحمول حال جلوسي على المقعد. ليس هاتفاً ذكياً، ولا يوجد به إلا مجموعة من الأرقام التي أتواصل معها صوتياً. لا أفكر بشيء، ولا أرغب أن أفكر بأي شيء. لا أقول إنني إنسان بسيط، ولكن هي رحلة بين مدينتين، تستغرق قرابة الساعتين. لست الوحيد في هذه الطائرة الذي ليس لديه رغبة بالنوم أو القراءة أو حتى تصفح النشرات الموجودة في جيب المقعد المقابل، أو أخذ غفوة بسيطة، ولكن ربما كل واحد يشغل ذهنه بالتفكير، في أي أمر حياتي. أنا لا أرغب أن أفكر مطلقاً، بإمكاني أن أراقب الناس، وهذا أمر عادي، وبإمكاني أن أتطلع للكتاب الذي يحمله الرجل الجالس بجانبي، بل إنني أعرف ذلك الكتاب منذ أول وهلة لمحته. هو مستغرق بالقراءة، ويبدو عليه الانسجام، ولكنه يقرأ فقط دون أن يعلق على الهوامش أو يضع خطوطاً تحت بعض الأسطر. هو يقرأ كتاباً أعرفه جيداً، في الوقت الذي أنظر إليه، وإلى أعلى رؤوس الركاب أمامي ببلاهة. لا بأس؛ نحن نحلق في السماء، والمضيفة توزع بعض المأكولات الخفيفة على الركاب، وعصائر بعلب صغيرة. ليس لدي رغبة بالأكل؛ فقط آخذ قنينة ماء صغيرة. الرجل القارئ في الوسط يأخذ فطيرة وعلبة عصير. يمسك الكتاب بيده اليسرى، ويواصل القراءة وهو يأكل، لا يفكر أن يريح نفسه من القراءة، بل ربما ليس لديه رغبة أن يتحدث مع أحد، والكتاب يساعده على ذلك. والأوروبي ذو الشعر الأبيض ينتبه ويشكر المضيفة، ويأخذ وجبته. أنا صامت، لا أعمل شيئاً باستثناء مراقبة الآخرين. أشرب الماء، وأضغط على زر جانبي لأسترخي قليلاً على المقعد؛ ليطلب رجل يجلس على المقعد خلفي أن أعيد المقعد لوضعه الطبيعي؛ أعيده مباشرة عندما أفطن إلى أن المكان ضيق، وهو يعاني من تضخم الكرش. أقرر أن أفكر، بالطبع ليس هنالك شيء محدد للتفكير به، بالذات اليوم. لقد أتعبني التفكير طوال الفترة الماضية؛ وقررت أن أهرب من كل الأفكار البيضاء والسوداء، وأن لا أشغل نفسي بأي شيء؛ فبدأت بالتخلص من هاتفي الذكي هرباً من وسائل التواصل الاجتماعية المختلفة، واكتفيت بهاتف بسيط للتواصل، وحرصت على أن أبتعد عن كل شيء مكتوب أو مسموع. أريد أن أصفي ذهني، أن أشعر بأنني لستُ محاصرًا بالأفكار. الرجل الذي يجلس بجانبي لا يزال يواصل القراءة، تجاوز أكثر من منتصف الكتاب، ولا يزال مستمتعاً، وأيضاً غير مهتم بتطفلي لمعرفة الكتاب الذي أقرؤه. الرجل ذو الشعر الأبيض انتهى من تناول وجبته، وعاود غفوته. ليني أستطيع مثله أن أغمض عيني حتى تهبط الطائرة، لنغادرها. أمامي رجل وامرأة، منذ بداية الرحلة وهما يتحدثان بهدوء، ربما في الأيام الأولى من زواجهما، لم أفكر أن أتنصت. في الخلف ربما ليس في المقعد الذي خلفي تماماً، رجلان يتحدثان، صوتهما مرتفع قليلاً، ولكن غير واضح، يتكلمان العربية. هذه الرحلة بالمناسبة ليست دولية بل داخلية، ورغم هذا الإزعاج الصوتي الرجل الذي يجلس بجانبي يواصل قراءته بانسجام. اقتربنا لمحطة الوصول. النافذة لم أغلقها، ولم أفكر أن أطل وأرى الأرض من الأعلى، بل إنني لم آبه لها، والمقعد على وضعه الطبيعي، والحزام لم أقربه بعد أن أغلقته عند جلوسي. نصل، يستيقظ كل نائم بالطائرة، ويهبوا لحمل حقائبهم. ينتظر الرجل الذي يجلس بجانبي حتى يغادر الرجل ذو الشعر الأبيض مكانه، ويضع مباشرة الكتاب في الحقيبة التي وضعها تحت المقعد، ويغادر مباشرة. أفتح الحزام وأقف، وآخذ حقيبتي، وأغادر الطائرة. أحاول أن ألحق بالرجل الذي كان يجلس بجانبي لأسأله «هل أعجبتك الرواية.. إنها روايتي الأخيرة».