د.سهام صالح العبودي
في الحلقة التاسعة من الموسم الأوَّل لمسلسل (THE CROWN) البريطاني يقوم خطٌّ حدثي جوهري على لوحة تكريميَّة كانت مقرَّرة للسياسي البريطاني ورئيس الوزراء (ونستون تشرشل) هديةً من أعضاء مجلسي البرلمان.
كُلَّف برسم اللوحة -التي يُقال إنَّها كان من المفترض أن تزيِّن أحد جدران البرلمان- الرسام الإنجليزي (الحداثي) غراهام ساذرلاند. بعد دراسة، وعدة جلسات رسم لم تتعرَّف اللوحة إلى جدارها المقدَّر؛ إذ رفض تشرشل بشكل قاطع قبول اللوحة؛ لأنَّه كان يبدو فيها عجوزًا ضعيفًا، تشرشل الذي كان قد أكمل الثمانين من عمره آنذاك، وكانت اللوحة تكريمًا مخصوصًا من البرلمان؛ لبلوغه هذه السنَّ كان يحبُّ أن يتأمل نفسه في لوحة تخبر عن مزاياه لا عن عيوبه، لم تقنعه أفكار الفنان -في جدالهما الحادِّ في موضوع اللوحة- بشأن صدقيَّة الفنِّ وتمثيله الحقيقة، (الحوار عن الدقة والحقيقة والفنِّ كان من أجمل ما دار في الحلقة)، لم يقبل ساذرلاند فكرة تقديم قليل من التزييف اللائق ببطل بريطاني قومي أحبَّ أن يبدو قويًّا، وصلبًا في لوحة ستبقى خالدة، وبحسب الروايات فإن زوجة تشرشل أحرقت اللوحة (التي عُدَّت تحفة فنيَّة مفقودة). لقد كانت تلك اللوحة تمثيلا لكلِّ ما يريد المرء أن يخفيه من عيوبه: المساوئ المخلَّدة.
قبل مدة ليست بالطويلة ورد في خبر صحفي أنَّ خدمة (Alipay) للدفع الإلكتروني في الصين -وهي خدمة تتيح الدفع باستخدام تقنية تعرُّف ملامح الوجه- أضافت مصفيَات تحسينيَّة (فلاتر) إلى كاميرات مسح الوجوه في المتاجر؛ لأن الزبائن لم يحبوا الأشكال التي تبدو عليها وجوههم حين تظهر في أجهزة الدفع!
يبدو هذا الأمر مثل ملاطفة مُرضيَة للزبون، ومع أنه من غير الوارد أن تظهر هذه الصورة التعرُّفيَّة إلى العلن فإنَّ الإشكال القبولي كان هنا مع النفس لا مع الآخر، في الحالة التي يكون الإنسان فيها هو جمهور نفسه، أو زبون بضاعته المبتغاة (صورته)، فإنَّ على الشركات أن ترضي هذا الجمهور مهما بدت متطلَّباته ساذجة، وغير معهودة، ومتلاعبة بالحقيقة.
شاع في الثقافة المحلِّيَّة تسمية الصور: (العكوس)؛ وهو اسم يصوِّر ميكانيكيَّة الالتقاط، ولكنه -وبالمصادفة- يخبرنا أنَّ الصورة الملتقطة لا تعكس الموضوع الملتقط فقط؛ بل كلَّ التصوُّرات القبليَّة عن الشيء أو الذات، وهي تصوُّرات لا تقبل معها الذاتُ ما يشوِّهها؛ فالإنسان حين يصبح هو موضوعًا لتأمُّله الذاتي لا يمكن أن يتخلَّص من تحيُّزاته الخاصَّة، وأهمها الشعور بالأفضليَّة، والنزوع غير المتناهي نحو الكمال، مرحلة متقدِّمة في التطلُّب. وما يحصل اليوم -في زمن الرقميَّة الكاسحة- هو أنَّ هناك تجارة كاملة تقوم على استثمار هذا التطلُّب وتضخيمه، على وجهٍ يجعل الصورة الحقيقيَّة -بعيوبها الواقعيَّة- أشبه بهجاء (غير لغويٍّ) لصاحبها، ومهما بلغت درجة صوابه و(حقيقيَّته) فإنَّه سيكون مرفوضًا مثل أيِّ هجاء آخر.
إنَّه أمرٌ يدعو للتأمُّل: أن يشعر الإنسان بغربة مع وجهه الذي يحمله، ويقضي جلَّ يومه صحبته، بينما يحسُّ بألفة واطمئنان مع وجهه المزوَّر/المحسَّن، ليس لذلك تفسير سوى أنَّ الإنسان يقبل ما يقوله لسان (التحسينات/الكذب) الحلو، بينما ينفر من لسان (الصورة الأصليَّة/الحقيقة) المرِّ، كنفوره من أيِّ حقيقة موجعة، تمامًا كما نفر (تشرشل) من حقيقة ضعفه، وشيخوخته في لوحة أُخفيتْ كما تُخفى كثير من الحقائق التي لا يرغب أصحابها في إظهارها!