يمثل العمر الحركة الزمنية التي تترك أثرها على الإنسان وتنقله من مرحلة عمرية إلى أخرى مع ما تحمله كل مرحلة من تلك المراحل من تغيرات نفسية وسلوكية وعقلية وجسدية تميزه عن غيره، بدءًا بمرحلة الطفولة ومرورًا بالمراهقة والشباب ووصولاً إلى الشيخوخة.
ويختلف الشعراء في إحساسهم بالعمر وموقفهم منه فلكل شاعر رؤيته الخاصة تجاه تلك الأعوام والمراحل العمرية؛ سواء في إحساسه بذاته وهي تمر بهذه المراحل، أو وصفه لها وهي تتدرج في مرورها به أو بغيره.
وتمثل مرحلة الشيخوخة المرحلة العمرية الأكثر صدقًا وواقعية؛ إذ يكون الشاعر قد خاض عديد التجارب التي تمنحه الحكمة والقدرة على إصدار الأحكام، وتبين ثبات الرؤى وتحولها؛ إضافة إلى وعيه بالمرحلة التي يعيشها، هذه المعرفة التامة بالحياة قد يقود إلى الضجر منها؛ فهذا لبيد بن ربيعة العامري يسأم طول الحياة:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟
ومثله زهير بن أبي سلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولًا لا أب لك يسأم
ويدور حول هذا المعنى قصائد عديدة في الشعر السعودي تتكئ على عتبة العمر، خاصة مرحلة الشيخوخة، ويبرز منها: قصيدة حديقة الغروب الشهيرة لغازي القصيبي:
خمس وستون.. في أجفان إعصار
أما سئمت ارتحالا أيها الساري؟
أما مللت من الأسفار.. ما هدأت
إلا وألقتك في وعثاء أسفار؟
ويمثل ارتقاء القصيبي هذه العتبة وهي الستون علوًا يمنحه فرصة التريث والمراجعة التي تجعل الذكريات تتداعى أمامه؛ ليتخذها صديقًا يحاوره ويبثه شكواه، من العداوات والمكائد التي حيكت ولا تزال تحاك ضده؛ تلك العداوات التي لم ترَ في العمر الذي نذره لهذه الأرض شيئًا يستحق؛ حتى بلغ منه السأم والملل مبلغًا جعله في حالة انتظار للنهاية الحتمية للحياة وهي الموت؛ ولكنه انتظار يفتقد الصورة الشجاعة التي يتصف بها القصيبي، انتظار نمطي للموت يتلخص في طلب المغفرة من معترف بالخطيئة.
وهذه الرؤية التي تمثلها القصيبي هي الخلاصة التي استقر عليها بعد أن محص أفكاره وحقق من أهدافه الحياتية الكثير، الأمر الذي جعل ديوانه «حديقة الغروب» مرثية كاملة لنفسه توزعت بين أصحابه وأقاربه.
في حين تمثل القصيدة الثانية نموذجًا مغايرًا مليئًا بالأمل وحب الحياة، رغم أن شاعرها عبدالله بن إدريس كتبها وهو على عتبة أعلى من القصيبي؛ إذ كتب قصيدته «على باب الثمانين» معارضًا القصيبي، ويرد على ستينه بسبعينه، فإن كان القصيبي يحاور عمره وبلده وزوجته، فإن قصيدة عبدالله ابن إدريس تحاور أطروحات القصيبي حول العمر فقط في قصيدته حديقة الغروب:
تسع وسبعون يا شمعات مسياري
أمضيتها بين إعسار و إيسار
تسع وسبعون يا لذات أحرفها
أمضيتها بين إقبال وإدبار
ويبدو بحسبة عمرية ظاهرية أن العشر الإضافية في عمر ابن إدريس قد منحته قدرة الإجابة عن التساؤلات التي راودت القصيبي في قصيدته؛ إضافة إلى روح التفاؤل والإغراء بالحياة واستمرار الأمل في النجاح، الجسر الذي أوصله إلى تحقيق الصداقات واكتساب محبة الناس.
وهو يعجب من زهد القصيبي في الحياة، وترحيبه بها، رغم فارق العمر بينهما:
فهل مللت؟ هناك اليوم تصغرني
(بربع) عمرك.. ياللبائع الشاري؟!
لقد اتخذ الشاعران العمر في مرحلة الشيخوخة عتبة يناجي كلاً منهما روحه بإيمان لا يخلو من اليقين بالموت، المحطة الأخيرة لهذه الحياة؛ غير أن قطار الوصول إليه اختلف بينهما؛ ففي حين ينظر القصيبي إلى كل ما قدمه بصيغة الماضي المنتهي وكأنه يتفرج عليه من بعيد:
فقولي لم يكن بطلاً.. تلك التي يكررها، فإن ابن إدريس لا يزال يعيش هذه الحياة ويخاطب ما انقضى من سنوات عمره بروح التحدي:
وما سمحت لها يومًا تسائلني..
وأخيرًا يجدر الإشارة إلى أن عوامل المرض والعجز والضعف والاغتراب لها دور مؤثر وفاعل في اختلاف الرؤية بين الشاعرين للعمر المنصرم من كليهما.
** **
- د. دلال بنت بندر المالكي