وقف على مسافة ليست ببعيدة من تلك البوابة المغلقة بأبوابها الحديدية العملاقة، راقبه في صمت وهو يعبث بأغراضه الشخصية بهدوء، ويستل منها موقداً صغيراً وإبريقاً متسخاً تلفح منتصفه بالسواد. قربه قليلاً من وجهه ورمقه بنظرة حانية قبل أن يضعه على الأرض، ويسكب به قليلاً من الماء ويرفعه على الموقد الذي أشعله والابتسامة لم تفارقه.
وبينما بقي على حاله متلصصاً، كان غطاء الإبريق قد بدأ يرتجف في صخب أصمته إضافة السكر ثم أوراق الشاي، سرعان ما خفض الحرارة وتركه قليلاً حتى يخدر، وضعه بعد ذلك على صينية صدئة تضرس سطحها وتعرجت أطرافها. دقائق قليلة شرع بعدها بصب الشاي والتلذذ به.
وهو لا يزال يراقبه بحسرة من بعيد؛ انتابه إحساس بجماله رغم بشرته التي أحرقتها الشمس وعروق يده النافرة وعيونه الغائرة التي أثقلتها الأخاديد وأغلقتها حواجب كثة حدجها البياض، وأنفه الذي أصبح في تحدبه كالأرض الجدباء يتوسط وجهاً تضرمته التجاعيد والندوب. وكان وقتها يرتدي ثوباً باهتاً أوشك أن يفقد لونه، ويعتمر عمامة مهترئة اختلط بياضها بسوادها، يرفعها على فترات ويحك رأسه المشتعل شيباً قبل أن يعيدها ويشتغل بتحريك يده أمام فمه محتفياً فيما يبدو بتثاؤبه. ثم إنه افترش حصيرة متقرحة تأكلت أطرافها وتنسلت خيوطها.
حاول أن يكون مقداماً جسوراً، يوقف مركبته الفارهة قريباً منه ويقدمُ عليه يرتشف معه من هذه السعادة، لكنه جبن كعادته. حينها تمنى لو استطاع سؤاله فقط، كيف له أن يكون سعيداً بمثل هذه الأشياء البالية، عديمة القيمة؟!! كيف أمكنه الهروب من مجتمعه الخانق وكسر قيوده؟!! ابتسم وهو يستعرض هذا السؤال الأخير الذي على بساطته لم يجد له جواباً.
وقد بلغ به القنوط مبلغه والاستفهامات ما زالت تعصف به. اقترب منه وعندما ابتسم العجوز في وجهه وأشار بيده مرحباً، ترجل من مركبته ممسكاً بطرف ثوبه، حتى إذا ما وقف في استقباله تجاوزه دون أن يصافح يده المدودة، فقط ركل «براد الشاي» بحذائه اللامع وقفل راجعاً.
** **
- حامد أحمد الشريف