عن دار الفارابي في بيروت صدرت رواية (لما استيقظ حلمي) في العام 2016م، للروائية السعودية مرام فيصل الحميد (ماجستير إدارة الأعمال). والرواية تتحدث عن قصة (ندى) وهي فتاة عشرينية وحيدة والديها، وجدت نفسها تعوم داخل متاهة نفسية بعد وفاة أبيها، أحداث غريبة تحدث لها لم تستطع تفسيرها وألغاز أحاطت بها لم تتمكن من فك حصارها.

وأول ما يلفت النظر في هذه الرواية هو الإهداء للرجل كجد وأب وأخ وأجمل حب (إشارة عامة وعائمة لا تقبل التحديد). واستهلت الكاتبة روايتها بمقولة لأحمد مراد «أما السكوت فدائماً أبلغ، يحوي بداخله ما تعجز عنه الكلمات» وكأن هذه المقولة تشي بالحالة النفسية لشخوص الرواية، فالصمت هو حالة كلام حينما يتوقف الكلام.

وتأتي لغة السرد عبر حوارات قليلة بين البطلة وبين شخصيات الرواية الأخرى وهم غالباً (الزوجان ياسر أو عدنان أوصديقتيها أثير وريم والطبيب أحمد ووالدتها)، وتلجأ الكاتبة إلى السرد المباشر عبر كتابة يومياتها للطبيب المعالج (أحمد) والذي طلب منها الكتابة له عن مشكلتها بحكم أنها تلتزم الصمت حيرة تارة من وضعها الغريب عليها وخجلاً وخوفاً تارة أخرى من واقع لا يرضى بأنصاف الحلول، وحيلة السرد بهذه الطريقة هي فكرة ذكية لأنها تخاطب القارئ مباشرة وكأنه هو طبيبها الذي تبحث عن العلاج عنده، فعباراتها تخونها وعبراتها تغدر بها كلما قيدها الكلام في حضرة الصمت، فكيف لامرأة عاشت في حالة نفسية أصبحت معها متزوجة من رجلين في آن واحد (عدنان وياسر) بل وحملت من كليهما بطفل وطفلة رغم أن أحدهما وهم وليس حقيقة، كيف بها أن تتحدث وتبوح؟ الأمر لا يصدق، شتات كبير وحالة ضياع عاشتها بطلة الرواية (ندى) أجادت الكاتبة استجلاء مكنوناتها عبر كتابة ما يشبه المذكرات اليومية للطبيب النفسي المعالج والذي عشقته ظناً منها أنه الزوج الثاني الذي غادرها ذات حين وترك بقايا حبه في قلبها لا تدعها في حالها، كما تألقت الكاتبة في الوصف الروائي الذي أحاط بتفاصيل مهملة وزوايا مظلمة من الأحداث الروائية، فبطلة الرواية التي كانت (ثرثارة) سيطر عليها الصمت بعد وفاة والدها، كحالة نفسية تعبر عن واقعها الجديد، ويبقى الحديث الروائي في بنية النص يأخذ ثلاثة أبعاد مختلفة (صمت، صراخ، همس)، ويأتي الصمت احتجاجاً على الكلام والكلام احتجاج على الصمت، وكانت تردد «طوال ذلك الوقت اعتقدت أنني أتحدث ولا أحد يأبه لحديثي..»، وتقول «وفي تلك اللحظة اكتشفت أنني أنا من كنت لا أكترث لحديث نفسي فاحتفظت به في داخلي»، ولا يكسر حدة هذا الصمت القاتل في تفاصيل حياتها اليومية إلا صوت مزهرية قد انكسرت وكأنها تصرخ في وجه الصمت، أو صوت مفاتيح تزعج الهدوء لتفتح باباً يخفي خلفه حالة من الصمت تخيفها، أو صوت منبه الهاتف الذي ينذر بحالة من الفزع بانتظار موعد مزعج أو حالة إفاقة من منام تهرب منه إليه، فالصمت هو حالة وجوم وتأمل وسكينة وحياة، أما الصراخ وعلو الصوت ووضوحه فهو دلالة على حالة تمرد واستنكار واستفهام، ويأتي ذلك عبر صديقتها (أثير) التي تصرخ في صمتها وتستجدي حضورها قائلة «تحدثي.. تكلمي.. قولي أي شيء»، وصوت البطلة (ندى) التي تخاطب نفسها «صرت أصرخ وأصرخ حتى علا صوتي»وحتى وهي تصرخ في واقعها تقول «أصرخ ولا يسمع لصراخي صوت..»، فالصوت عندها دلالة بوح يكسر حدة الصمت الصاخب في رأسها وفي لحظات حياتها التي غلب عليها الوجوم في ظل الصمت الظاهري فقط، لذلك لجأت إلى الصراخ تعبيراً واحتجاجاً كصوت قد يتفوق على صوت الصمت في داخلها، بل حتى الشيطان صرخ مهدداً كما تقول، فالصرخة سلاحها في عالم الصمت الأعزل وحيلتها الوحيدة التي تظهر في ثنايا النص الدرامي، وحينما زارت طبيبها النفسي الذي تعالج عنده كانت تصرخ وهي تشكو له وتقول « ولكن كنت أصرخ وبيننا عازل للصوت...»، وهاهو الصراخ مرة أخرى يأتي بديلاً للبوح إلا عندما وثقت من حبها لزوجها (عدنان) صرخت له» أنت ملكي وحدي...» ولم تهمس له وكأن حبها هو صرخة تمرد واحتجاج على واقعها الفعلي وليس بوحاً كما يجب أن يكون، وذات الصرخة تجلت في وجه زوجها الآخر (ياسر) حينما أراد أن يحمل طفله (يوسف) ظنت ندى أنه طفل (عدنان) الذي تركها وغادر إلى المجهول صرخت بكبرياء « اتركه هذا ليس طفلك...» ولقد كرهت (الصمت) حتى كرهت بسببه طبيبها الأول الذي لا يجيد الاستماع إليها، وكرهت جدران غرفتها التي لا تجيبها عن أسئلتها الحائرة، وفي ذروة حزنها الدائم (كمريضة نفسية بالاكتئاب) تتحدث دموعها أمام حبيبها الحقيقي أو الوهمي لعله يسمع أنين قلبها، وما بين الصراخ والصمت تأتي حالة الهدوء والتلوين الصوتي (الهمس) ليكون هو الحقيقة فقط وما غيره خيال، ويبقى الحب هو الصوت «...لأرفض أن تحبيني بلا صوت وأرفض أن أواري الحب في قبر من الصمت»، ويظل صوت الزوج (عدنان) الجميل بغنائه الشجي يحل عقداً كبلتها، فالصوت علاج حينما يكون الصمت مرضاً، ويأتي صوت الطبيب (أحمد) الذي تظنه زوجها (عدنان) يأتي كما تقول «صوت أحمد خصب رجولي» فحتى الصوت له دلالات خصبة توحي بتأثيره وأثره النفسي عليها، وتتجلى أصوات أنفاسها وصوت الشهيق والزفير في صدرها كصوت وحيد مسموع، ويظهر الصوت الهامس في تفاصيلها على شكل لا تبكي.. لا تقلقي.. لا تخافي، فهو اليد الحانية التي تتعاطف معها على الدوام.

وعلى الطرف الآخر تشكل دراما الألوان منعطفاً مهماً في مدلولات السرد الروائي، فهي عندما عاشت حالتين نفسيتين تهيأ لها أن تعيش ما بين لندن وجدة، ظهرت الألوان الحمراء في غرفتها مع زوجها (ياسر) الذي كانت تحبه، بينما كانت الألوان هناك في الغربة مع (عدنان) بيضاء وسوداء كدلالة على الوضوح والنقاء الذي تبحث عنه وتحتاج إليه حيث وضوح المشاعر وغموض الواقع، فتشكلت أسئلة ملونة بحسب حالتها النفسية، فيأتي التساؤل الملح : هل الألوان غربة أم وطن؟

فالارتياح وبراءة المكان تظهر معهما الألوان البيضاء في السرد الروائي بشكل لافت، فالأسرة البيضاء، والمحلول الأبيض وجدران شقتها في لندن البيضاء، والراية البيضاء التي ترفعها ذات حب، وبشرة طفلها كأجنحة الحمام البيضاء، وجدران المطبخ البيضاء في بيت عدنان، ووجه (ياسر) أبرص البياض أسود الحدود، له قلب طفل كما تقول ولكن كأنه مصنوع من قالب ثلج، وشعرها الأسود الذي يشي بظلمة واقعها وصراحة الهم فيه وكأنها تبحث عن الحقيقة، وطفلتها (أسيل) بجسدها الأبيض وشعرها الأسود، ويظهر عدنان غير مرة في الرواية بثوبه الأبيض الذي يعكس نقاء روحه وبشماغه الأحمر الذي يعكس نقاء قلبه وتدفق مشاعره، وحينما يداعب مولوده تصفه كأسد في غابة بيضاء، بل حتى ابتسامته الرمادي (لا بيضاء ولا سوداء) حينما يتعلق الأمر بتشبيهه لوالدها. كل ذلك السرد اللوني - إن صحت التسمية - مرتبط بواقعها وظروفها النفسية، وقم تم توظيفه ذكاء وفطنة ساهمت في خدم النص وأضافت للسرد الروائي روحاً جميلة وجاذبة.

وتأتي الألوان أيضاً كدلالات ذات مغزى يجليه حوار البطلة مع نفسها فقط كحالة لازمتها فترات طويلة من عمر الرواية، فعندما كانت تكتب قصتها وهي في المرحلة المتوسطة وضعتها في ملف لونه أزرق، وهو يرمز (كما يقول علماء الألوان) إلى البرود والهدوء وهو لون السماء والبحر وهو يعبر عن الحيوية، وتصف رائحة ابنتها كرائحة بستان (أخضر)، ومكتب الطبيب النفسي ارتاحت له لوجود ألوان الطبيعة (البني والبيج والأزرق والأخضر) والأخضر أيضاً من الألوان الهادئة، حيث يبحث على الطمأنينة والهدوء، بينما تكره الألوان (المزعجة) على حد تعبيرها كالأصفر والأحمر والبرتقالي، فوجه عدنان عند الغضب يتحول إلى اللون الأحمر (كرمز للمشاعر المتأججة)، وحينما يهدأ فهو (أسمر) جذاب، وتظهر مرة أخرى دلالة اللون الأسود الذي يشير إلى الغموض وإلى المجهول وكأنه يخلق حاجزاً بينه وبين العالم الآخر، وهذا هو تماماً حالها مع عدنان في غربتها المكانية والنفسية. وتصف الحياة معه بأن لونها (بمبي) للدلالة على المشاعر العاطفية المتنامية بينهما. وفي الوقت ذاته تصف عينيها بقولها « لا بنيتين ولا عسليتين»، ويظهر الشتات اللوني عاكساً لحالة الشتات النفسي للبطلة (ندى).

وقد حفلت الرواية بلغة سرد شاعرية تجلت في الاستشهاد بأبيات وقصائد شعرية جميلة في الغزل تم توظيفها لخدمة السياق الروائي والرواية كتبت بلغة فصيحة تخللها بعض العبارات باللهجة المحلية (لهجة الحجاز)، وبرعت الكاتبة في الوصف (كما أسلفت) حيث سلطت الضوء على التفاصيل الصغيرة متماهية مع أدوات الرواية وتقنياتها التي تعتمد على الوصف والتحليل، وثمة مقولات خالدة لأشهر الأدباء والعلماء افتتحت بها الكاتبة فصول الرواية التسعة (مع الفصل الأخير) وهذه المقولات تختزل أحداث كل فصل وتتحدث بلغة أخرى عنه، أما شخوص الرواية فهم قليل ولكن بشكل يتناسب مع الخط الدرامي للرواية، فبطلة الرواية هي (ندى)، والدها (يوسف)، والدتها (آمال) ولا وجود حقيقي للوالدين في السرد وفي أحداث الرواية إلا في وجدان الابنة فقط، أما زوجاها الحقيقي والوهمي فهما (ياسر)، و(عدنان) وكلاهما محب متفان في العطاء، وصديقاتها (أثير) مخلصة وقوية ومتماسكة، أما صديقتها الأخرى فهي (ريم) فهي أيضاً مخلصة ومتدينة نوعًا ما، وولداها الحقيقي والوهمي هما (يوسف) و(أسيل)، والطبيب المعالج هو (أحمد) وهو رجل ثلاثيني يشبه عدنان في مخيلتها، لذلك تعلقت به، وكما تشير الدراسات النفسية فإن المريض النفسي عادة يتعلق بطبيبه، وقد وردت هذه الفكرة في رواية تركي الحمد (شرق الوادي) حينما تعلقت بطلة روايته بطبيبها اللبناني، وورد في الس رد الروائي ذكر أخوالها وأعمامها وأهل زوجها ولكن دون دور يذكر، وكذلك الطبيب السابق دون أن يكون ثمة تأثير في حضور أو غياب أي منهم.

وقد تزينت الرواية بأسلوب الكاتبة وقدرتها على ربط الأحداث بطريقة مشوقة، وتميزها في السرد الروائي الذي جاء على شكل حوارات وحديث مباشر مع القارئ، ومقدرة فذة على حبس أنفاس القارئ عبر قصة متخيلة تعد غريبة في مضمونها حيث تعيش الزوجة (ندى) مع زوجين في وقت واحد ولا تدري أيهما الحقيقي وأيهما الوهمي، ولا شك أن (عقدة) كهذه تستعصي على أكثر الروائيين خبرة وتمرساً، وهذا ما نجحت به الروائية مرام الحميد مما جعل روايتها متداولة وشيقة، وحفلت أيضاً بعبارات وجمل جميلة ومعبرة مثل «أنهيت حياتي وما زالت رئتاي تتنفسان»، « لا تملك دائماً خيار العزلة»، «بعد أبي لم يبق على الأرض أي معالم للسعادة»، «تبعثر الهواء من حولي حتى نسيت كيف أتنفس»، «شعرك الرمادي تتخلله حكمة رسمتها السنين»، «إن كان فعلاً يحبني لجعلني أنا دواءه مثلما كنت داءه»، «حروفه نسيت كيف تكون الكلمة»، «ليس في الحب والعطاء ضمان مستمر إلى الأبد»، «لم تعد الغرب جميلة معك»، «أخفت عيناه سحباً ممطرة «، «كنت له السكر بعد مرارة أيام طويلة»، «لن تعلم المرأة مقدارها عند أمها حتى تنجب وكذلك الرجل..». ومثل هذه النوعية من الطرح الروائي لا شك أنه مختلف عن غيره، ويضيف إلى عالم الرواية السعودية رواية أخرى مميزة كتبت بقلم متمكن ننتظر منه الكثير.

** **

- منيف خضير الضوي