ثقبتْ ذاكرتي تاريخ المسامرات في ذهن، وهي مليئة بالمتناقضات، هي شرفة الزمن تَدلّى رأسي منها:
فأبصرت قدامي طريقًا فمشيت لست أدري! كأني أستجرّ قصيدة إيليا أبو ماضي... أو عَلَق بذهني قصص رحلات امريء القيس .. أرخى الليل سدوله غطى تلك الشرفة من الأماني، عدت أجرّ خلفي أذيال حكاية خَبَرْتُها منذ وقعت عيناي على جارتنا البدوية «تركية» أم المنجومي -رحمها الله - كنّا وإياها نسكن في شارع 25 بدلوعة الغيم الطائف. عزيزي القارئ سأدلف في ثنايا سردي، اطمئنوا لم ولن أتجاوزَ حدّي وبما أني سُعْلي وأرى ما لا ترون «اسم الله عليكم» فهي قِصّة حقيقة، وأرجوكم اقبلوا عذري فهذا قَدَري:
الخالة تركية لباسُها ثقيل لا يُشاهد منها سوى عينيها الواسعتين، وحِنّاها المُخَضّب في كفيّها مرسوم في خطين لا يلتقيان، وفي راحتيها نجمات لم تكتمل بعد، حين تتحدّث تُجْبِرك على سماعِها، صوتها أجَشّ، حتى قِطط البيت تُنْصت، ذات مرّة شاهدتني ونادت عليَّ يا عليوش تعال؟ وأنا خلف أمي -رحمها الله - مرعوب ومرعوش، استجبتُ لها ودمعي يسابقني.. الحقيقة لم أنتبه لتمتماتها لكني شعرتُ براحة حين فكّت قيدي، بلعتُ ريقي الجاف والخوف بلغ مني مَبْلَغه حين سمعتها مقتربًا، وهي تهمس في أذن أمي تقول:
ولدك يا شريفة المقام ومن طُهر الأرض الإمام مثل الصّيْب بين الحقيقة وما في الغيب طبعًا، قالتها بلهجتها البدوية والتي لا تخلو من لهجتها الجميلة «التستسة»!
في اليوم نفسه، شاكستُ دُجاجاتها، وتعاركت مع الجيد من فحلها في شَبْك غنمها وريحة المكان تعج بحارتنا -أعزكم الله- قربُ العصر هطلَ مطر غزير ومن عادات «عيال الحارة» كنتُ أتراقص مع نغماتِه مغنيًا بأنشودة:
جينا من الطايف والطايف رخا
والساقية تسقي يا سما سما
وعند الشارع العام تعثّرت فسقطتُ على رأسي من قوة الألم، الخوف يتملكني لم أنتبه للدماء التي أغرقتْ ثيابي... وحين وصلت انطرحت بين يدي أمي لا حِراك كما قيل لي بعد ذلك المعم جارنا الله يرحمه «الكرتي» استنجدت به أمي حيث كان والدي الله يطول عمره مسافرًا لسدّ جوع أولاده وتأمين مستلزمات عائلته... طبعًا قبل أن أسقط حكت لي أني كنت أذكر تركية أم المنجومي كثيرًا... قرر الطبيب خياطة رأسي بأكثر من ثنتي عشرة غرزة..بعد فترة وفي مرحلة التشافي كل ليلةٍ أحلم بتلك الدجاجات مستحضرًا قول بشار لخادمته:
رَبابَةُ رَبَّةُ البَيتِ
تَصُبُّ الخَلَّ في الزَيتِ
لَها عَشرُ دَجاجاتٍ
وَديكٌ حَسَنُ الصَوتِ
وذاك «التيس» الذي صرعته برأسي فانتقم الله مني..
كَبُرْتُ وتعمّلق قولها (ولدك يا شريفة المقام ومن طُهر الأرض الإمام مثل الصّيْب بين الحقيقة وما في الغيب)، ولم تزلّ تعويذتها في رأسي حتى كتابتي هذه!
والآن أيها القارئ الكريم بعد هذه الحارثة وأنا أفتح لكم بحب وشغف تلك الشُرْفة من ذكرياتي مُطلاً عليها ملتقطًا ما علق منها أؤمن أن القدر بقضاء الله واجبٌ وأن الحذرَ من أوْجَبِه اتباعًا.
مسافات أخيرة
مشكلة أي كاتب ... هو عدم تسويق نفسه للآخرين، هذه قاعدة تجارية نعم لكنها مهمة على مستوى النفس والآخر.. كلنا لا نعلم الغيب لكننا ندرك أن هناك بعض السعي لدرك هذا البعض وربما بالاجتهاد والتوكل على الله يصل صوتك للكل!
إذًا مقولة اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب مقولة خاطئة، ضدها اتعب اجتهد «سوّق نفسك» تصل بإذن الله إلى مبتغاك!
ليس مهمًا كثيرًا عدد من يتابعك لكن المهم ماذا تقدّم لنفسك ومن يقرؤوك؟!
المحتوى وصدقه وموضوعيته وشفافيته هو سوق رقمي أو كتابي تعرض فيه بضاعتك واختلاف الأذواق من حسن السِلْعة.
وأظن أو كما أعتقد:
أن تسويق نفسك من خلال عائلتك، جماعتك، قريتك، منطقتك، وطنك العظيم سلسلة مهمة لبلوغ المرام إذا شاء الرحمن ..
سوّق نفسك للآخرين ولكن انتبه أن تخدش الحياء (الدين، الوطن، الملك) ثلاثية النجاح.
فالدين : حياة الروح.
الوطن: قِبْلة العشّاق.
المليك: (سمع وطاعة سيدي).
القادم
الوطن في قلوب مثقفيه.. حكاية لم ولن تنتهي!
** **
- علي الزهراني (السعلي)