تقديم المترجم: يتعجّب المثقفون بمعظمهم، وأنا معهم، من أنّ المفكر والأديب «الليبرالي» د. طه حسين (1889-1973) الذي اُتهم بالردّة عن الإسلام بعد تأليف كتاب «في الشعر الجاهلي» في عام 1926 قام بعد ذلك بتأليف كتاب «على هامش السيرة» في عام 1933 الذي سرد فيه، على نحو مبسّط و«تبجيلي»، السيرة النبوية! كما يتعجّب المثقفون بمعظمهم، وأنا معهم، من أنّ السياسي والمفكر والأديب والصحافي «الليبرالي» د. محمد حسين هيكل (1888-1956) الذي أنكر صراحةً في عام 1910 أن يكون الوحي المنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) والأنبياء الآخرين من مصدر إلهي قام في عام 1935 بتأليف كتاب «حياة محمد» الذي تحدّث فيه عن عظمة شخصية نبي الإسلام محمد وفنّد فيه انتقادات المستشرقين والمبشرين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم! وقام كلا المُفَكِرَيْنِ لاحقاً بتأليف كتب أخرى في «الإسلاميات».
واليوم يسرّني تقديم ترجمتي لورقة نوعية نادرة جداً للمستشرق الأمريكي البروفيسور تشارلز دي سميث، يفكك فيها هذا اللغز. ولم يسبق لي أن قرأت مُؤَلَفاً باللغة العربية يحل هذا اللغز بشكل عميق وشامل ومقنع، وإن وجد مُؤَلَف فهذا قصور مني بدون شك. البروفيسور تشارلز دي سميث أستاذ فخري متقاعد لتاريخ الشرق الأوسط في كلية دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بجامعة أريزونا الأمريكية (UA)، حيث كان يشغل منصب رئيس قسم التاريخ ومدير برنامج الدراسات العليا. حصل على درجة الماجستير في تخصص «دراسات الشرق الأوسط» في جامعة هارفارد وحصل على الدكتوراه في «التاريخ» في جامعة ميتشيغان، وهو عضو سابق في هيئة التدريس بجامعة ولاية كاليفورنيا-سان دييغو (UCSD). هذا وقد اختار البروفيسور سميث في ورقته مقاربة هذه الظاهرة عبر تحليل ونقد أبرز دراسة غربية صدرت عنها وهي تلك التي كتبها (المستشرق) البروفيسور ندّاف صفران() التي صدرت في عام 1961 في كتاب بعنوان: «مصر تبحث عن مجتمع سياسي: تحليل للتطور الفكري والسياسي في مصر 1804-1952». كما قام سميث بنقد وتفنيد بعض استنتاجات صفران. ومن كتب تشارلز سميث: «الإسلام والبحث عن نظام اجتماعي في مصر المعاصرة: سيرة محمد حسين هيكل»، 249 صفحة، عام 1984. وهو أيضاً مؤلف كتاب «فلسطين والصراع العربي - الإسرائيلي»، 624 صفحة، ط-1 عام 1988، ط-8 عام 2012. وألّف غيرهما. وقد حذفت العنوان الفرعي: «طه حسين ومحمد حسين هيكل أنموذجين» لاختصار عنوان الورقة. ونشرت هذه الورقة في فصليّة «المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط» (IJMES) العريقة، أكتوبر 1973، مجلد 4، ص ص 382-410. ولعل هذه المادة هي أهم مادة ترجمتها منذ بداية عملي في مجال الترجمة. (العيسى)
ويرى صفران أن هذه الجملة تكشف تِيه هيكل وفقدانه التوجه. ويشير إلى أن هيكل قدّم «تمييزاً نظرياً بين «الحياة الروحية» للغرب، التي رفضها، وبين «حياتها العقلانية» التي لا يزال يعتقد أنه يجب محاكاتها. ولكن في الممارسة العملية - أي استناداً إلى ما رفضه وقبله بصلابة – يبدو أن هذا التمييز كان ذا أهمية ضئيلة أو معدومة... فقد يفكر المرء وفقاً لهذه الملاحظات في أن التغريبيين - أو هو، نفسه، قبل أن يغير مواقفه - أرادوا محاكاة الفكر الكنسي الغربي أو استيراد منظمة كنسية إلى الإسلام وأن هذه هي «الحياة الروحية» التي يرفضها الآن. (81)
هذه الفروق التي قدمها هيكل كانت، بعكس ذلك، مهمة جداً ومتسقة تماماً مع مواقفه المؤيدة والمناهضة للفلسفة الوضعية. فالحياة الروحية في الغرب ترتبط بنظام كنسي كهنوتي - سلطات دينية - لا ينبغي إدخاله إلى الإسلام، وهي حجة واهية نظراً لعدم مطالبة أي من التغريبين بهذا من قبل، بل على العكس. ولكن هذا المنطق يتسق مع أهداف هيكل لأن رفض الحياة الروحية للغرب يعني الحفاظ على الحرية الموجودة في الإسلام حيث لا يوجد مثل هذا النظام والسلطات الكنسية. ومن خلال دمج «أكبر قدر ممكن» من عقلانية الغرب مع الدفاع عن الحياة الروحية في الإسلام، كان هيكل يدعو بالتالي إلى توفير أكبر قدر ممكن من الحرية استناداً إلى التاريخ الغربي والإسلامي. وكان هذا التحول إلى الإسلام ضرورياً، لأن: «.. الأمة التي لا تربط حاضرها بماضيها مصيرها الهزيمة... ولذلك فإن «الفجوة» استمرت في الاتساع بين دهماء شعوب الشرق من جهة، وتلك الأقلية النخبوية التي تدعو إلى تجاهل ماضينا والتحول بكل قوتنا إلى الاتجاه الغربي، من جهة أخرى. ولذلك اشمأزت الجماهير من فكرة تبني الحياة الأيديولوجية للغرب ولكن استمر إصرارها على محاكاة العلم والصناعة الغربية. ولكن نظراً لأن الحياة الأيديولوجية هي أساس الوجود لكل من الأفراد والشعوب، لم يكن هناك مفرّ من العودة إلى تاريخنا بحثاً عن أسس لحياتنا الأيديولوجية حتى يتسنّى لنا الخروج من ركودنا المهين..». (82)
وكان وجود أيديولوجية محلية ضرورياً بسبب أهمية رأي الجماهير، وهو عامل أخذه هيكل بالفعل في الاعتبار لكونه ذا أهمية سياسية كبرى. ومن خلال التأكيد عليه في هذا السياق، يُظهر هيكل مرة أخرى قلقه من «الفجوة» التي تطوّرت وهدّدت موقفه القيادي، ما أدى إلى دفعه إلى الاعتراف بقوة الإسلام كأيديولوجية. وبدلاً من رفض الغرب أو تشويه قيمه، تخلّص هيكل من النموذج الوضعي واستجاب لظروفه الوجودية كما فعل عبده. (83)
إنه هذا السياق فقط الذي يوجد فيه تماثل بين هيكل وعبده، ولكن بعكس تحليل صفران. إنه يفحص هيكل استناداً إلى افتراضاته بأن المواجهة بين نظام المعتقدات التقليدية ونظام قائم على العلم الحديث خلقت الحاجة إلى إما تعديل النظام القديم وإما تأسيس نظام جديد. وعلى الرغم من كونه محقاً في افتراض أن تحول هيكل إلى الإسلاميات يدلّ على فشله في تأسيس نظام جديد، يرى صفران أن هيكل تراجع حتماً عن البديل الآخر، أي القيام بتعديل للدين يمنح الإسلام توجّهاً إنسانياً وعقلانياً مثلما سعى عبده إلى القيام به.
... ... ...
هوامش المترجم:
() ولد نداف صفران في القاهرة عام 1925 لأبوين يهوديين. هاجر إلى إسرائيل وحارب مع الجيش الإسرائيلي ضد العرب في حرب عام 1948. حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية في جامعة هارفارد عام 1958. ثم قام بتدريس العلوم السياسية في جامعة هارفارد وأصبح مديرا لمركز دراسات الشرق الأوسط فيها. كما عمل لبعض الوقت مستشارا للبيت الأبيض حول قضايا الشرق الأوسط. تقاعد عام 2002 وتوفي عام 2003. (يتبع)
** **
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com