«ليس في أعمالي الروائية التي كتبتها ما لا يستند إلى الواقع»
ماركيز
مقدمة
في قصصه ورواياته يعيدنا ماركيز إلى الدهشة والمتعة والتشويق، كأننا في عالم ألف ليلة وليلة، أو في رحلة عوليس في الأوديسه حيث الإثارة والمفاجآت والعجائبية.
ينقلنا ماركيز في مئة عام من العزلة إلى عالم السحر والحكي الجميل، والمتعة المستمرة. تتوالد مئة حكاية وحكاية.
ابتكر ماركيز مدينة ماكوندو، وهي تشبه ابتكار فوكنر مدينة يوكناباتوفا الخيالية التي أشرنا لها في دراستنا عن فوكنر.
ماكوندو مدينة خيالية، لا ترمز لبلدة أركاتاكا في كولومبيا فحسب، بل ترمز إلى قارة أمريكا الجنوبية..
الواقعية السحرية (الغرائبية)
تُعرف الواقعيّة السحرية أو الغرائبية Magical Realisim بأنها أسلوب وتقنية في السرد الروائي الحديث، يغلب عليه الخيال والفانتازيا واللاواقعية واللامعقول والسحر. وهي مستمدة من أعمال كلاسيكية، مثل الإلياذة والأوديسه وألف ليلة وليلة، حيث الحكايات الغريبة، كالتنين والرخ وعلاء الدين وبعض رحلات السندباد الغرائبية.
وقد صاغها كمفهوم ومصطلح الناقد الأدبي الألماني فرانز روه عام 1929، وهو ما يجمع بين الواقع الحقيقي والخيال السحري، وطبقه على بعض أعمال الفنانين الألمان، وتميز بها كتّاب القصة والرواية في أدب أمريكا اللاتينية، مثل الكوبي إيجو كاربنتاير والأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، والجواتيمالي ميغل أنغيل استورياس، والكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي، والبرازيلي ماشادو ده أسيس، والهندي سلمان رشدي، ثمَّ انتقلت إلى بعض الأعمال في آدابِ اللغات الأخرى.
ماركيز والواقعية السحرية
يفسر ماركيز سر الواقعية السحرية في أعماله بقوله: «أظن منطقة الكاريبي علمتني رؤية الواقع بطريقة أخرى، وقبول العناصر فوق الطبيعة كجزء من حياتنا اليومية. إن منطقة الكاريبي هي عالم قائم بذاته». (14)
ويشرح ذلك بقوله: «وأول أثر من آثارها الأدبية السحرية هو (مذكرات سفينة) الذي كتبه كريستوفر كولمبس. إنه كتاب يتحدث عن نباتات خرافية، وعوالم أسطورية. أجل، إن تاريخ الكاريبي مليء بالسحر، سحر جاء به العبيد الزنوج من إفريقيا، كما جاء به القراصنة السويديون والهولنديون والإنجليز... إن الخليط البشري والتناقضات الموجودة في منطقة الكاريبي لا يُعثر على مثيل لها في مكان آخر من العالم. إنني أعرف كل جزرها. فتيات مولدات ذوات بشرة بلون العسل، وعيون خضراء، ومناديل رأس ذهبية. صينيون مهجنون من السكان الأصليين يغسلون الملابس، ويحملون التمائم. هنود حمر يخرجون من دكاكينهم التي يبيعون فيها العاج؛ لكي... في وسط الشارع قرى مليئة بالغبار قائظة، تدمر الأعاصير منازلها. وعلى الجانب الآخر ناطحات سحاب بزجاج ملون وبحر بسبعة ألوان». (15)
ويقول عنها ماركيز: «عندما أبدأ بالحديث عن منطقة الكاريبي فلا يوجد توقف. وهي ليست العالم الذي علمني أن أكتب فحسب، وإنما هي المنطقة الوحيدة أيضًا التي لا أشعر فيها أنني غريب». (16)
عالم العزلة عند ماركيز
بدأ ماركيز في ابتكار ماكوندو في روايته الأولى (عاصفة الأوراق الذابلة) عام 1955 التي وصف فيها واقعًا عن نبات الموز في ماكوندو التي تعبر عن فترة ازدهار واضحة خلال وجود الشركات الأمريكية، كما أنها تمثل مرحلة اكتئاب مع رحيل هذه الشركات.
وفي رواية مائة عام من العزلة أعاد ماركيز إبداع ماكوندو التي تدور أحداثها في ماكوندو، تلك المدينة الخيالية من تاريخ تأسيسها حتى اختفائها مع آخر جيل من عائلة بوينديا.
سأله صديقه الكاتب الفنزولي ميندوزا: «ماذا كنت قد وضعت نصب عينيك عندما جلست لكي تكتب (مئة عام من العزلة)»؟
فحكى له ماركيز يقول: «التعبير تعبير أدبي مُحكم عن جميع التجارب التي كانت قد مرت بي بطريقة من الطرق أثناء طفولتي». (17)
وأضاف قائلا: «... لم أرد سوى تقديم شهادة شعرية عن عالم طفولتي. هذه الطفولة التي أمضيتها - كما تعلم - في منزل واسع كئيب، مع أخت كانت تأكل التراب، وجدة كانت تحدس المستقبل، وأقارب كثيرين كانوا يحملون الأسماء الأولى نفسها، ولا يميزون بين الغبطة والجنون تميزًا كبيرًا». (18)
بداية الحكاية في مئة عام من العزلة
يحكي ماركيز في بداية الرواية - وهي من أفضل بدايات الروايات التي قرأتها - ويقول: «بعد سنوات طويلة، وأمام فصيلة الإعدام، سيتذكر الكولونيل أوريليا نو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه للتعرف على الجليد. كانت ماكوندو آنذاك قرية من عشرين بيتًا من الطين والقصب مشيَّدة على ضفة نهر ذي مياه صافية، تنساب فوق فرشة من حجارة مصقولة بيضاء وكبيرة مثل بيوض خرافية». (19)
هنا يبدأ ماركيز نثر عطر سحره؛ لينشره في هذه الرواية، فنبدأ نتذكر الطيور الخرافية في ألف ليلة وليلة، كالرخ وغيره...
ويستمر ماركيز في الحكي ويقول: «كان العالم حديث النشوء، حتى أن أشياء كثيرة كانت لا تزال بلا أسماء، ومن أجل ذكرها لا بد من الإشارة إليها بالأصبع». (20)
وتبدأ حكايته مع الغجر، وبداية تعرفه عليهم، ويقول: «وفي شهر آذار من كل عام كانت أسرة غجر ذوي أسمال تنصب خيمتها قريبًا من القرية، وتدعو بدوي أبواق وطبول صاخبة إلى التعرف على الاختراعات الجديدة. جاءت أولاً بالمغناطيس». (21)
وتبدأ حكاية الغجري ميلكيادس: «وقام غجري مربوع، له لحية كثة، ويدا عصفور دوري، قدم نفسه باسم ميلكيادس بعرض عام صاخب، لما أسماه أعجوبة (علماء الخيميا المقدونيين) الثامنة. مضى من بيت إلى بيت وهو يجر سبيكتين معدنيتين؛ فاستولى الذعر على الجميع حين رأوا القدور والطسوت والكماشات والمواقد تتساقط من أماكنها، والأخشاب تطقطق؛ لأن المسامير والبراغي راحت تتململ؛ لتنتزع نفسها من الخشب، بل إن الأشياء المفقودة منذ زمن بعيد بدأت تظهر؛ إذ بحثوا عنها طويلاً من قبل، وراحت تتجرجر منقادة في حشد مضطرب وراء حديدتَي ميلكيادس السحريتَين، بينما الغجري يصرخ بصوت أجش (للأشياء أيضًا حياتها الخاصة، والمسألة هي في إيقاظ روحها)». (22)
بداية تورُّط خوسيه آركاديو بوينديا
ويحكي ماركيز عنه: «وقد فكر خوسيه آركاديو بوينديا، وكانت مخيلته الجامحة تتجاوز على الدوام عبقرية الطبيعة، وتمضي إلى ما وراء الإعجاز والسحر في أنه بالإمكان استخدام ذلك الاختراع عديم الجدوى لاستخراج الذهب المدفون في الأرض، لكن ميلكيادس الذي كان رجلاً نزيها حذره (الاختراع لا ينفع في ذلك) إلا أن خوسيه آركاديو بوينديا لم يكن يؤمن آنذاك بنزاهة الغجر، واستبدل بغلة وشعلة ماعز بالسبيكتين الممغنطتين. أما زوجته أورسولا إيغوران التي كانت تعقد الأمل على تلك الحيوانات لتوسيع ميراث الأسرة الهزيل فلم تتمكن من ثنيه عن عزمه؛ فقد رد عليها زوجها (عما قريب سيكون لدينا فائض من الذهب لتبليط أرضية البيت)، وانهمك طوال شهور في إثبات صحة تكهناته، وارتاد المنطقة شبرًا شبرًا، بما في ذلك قاع النهر، وهو يجر وراءه السبيكتين الحديديتين، ويرتل بصوت عال تعويذة ميلكيادس، وكان الشيء الوحيد الذي استطاع استخراجه من باطن الأرض هو درع حديدية من القرن الخامس عشر، جميع أجزائها ملتحمة بطبقة من الصدأ، ولجوفها رنين أجوف، كرنين قرعة ضخمة مملوءة بأحجار. وعندما تمكن خوسيه آركاديو بوينديا ورفاق حملته الأربعة من فك مفاصل الدرع وجدوا فيها هيكلاً عظميًّا متكلسًا، يحمل قلادة نحاسية معلقة حول عنقه، فيها خصلة شعر امرأة». (23)
** **
- ناصر محمد العديلي
chmq2012@gmail.com