أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لقد حقق الإمام (ابن فارس) رحمه الله تعالى في كتابه (مقاييس اللغة): المقياس ملاحظاً أن الواو والكاف واللام بـ: أنه أصل صحيح يدل على اعتمادك على غيرك في أمرك: إذاً التوكل في لغة العرب يعني إظهار الإنسان العجز في الأمر، واعتماده على غيره؛ ولهذا لا يجوز شرعاً التوكل على غير الله, ويجب التوكل على الله وحده.. قال الله سبحانه وتعالى: {وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (سورة إبراهيم/ 11)؛ مع القدرة على فعل الأسباب؛ فعليه أن يفعلها، وأن يعلم أنه يفعل مأموراً به شرعاً يأثم بتركه, ويعلم أن الثقة بالله وحده؛ لأنه خالق الأسباب؛ وفي حال العجز عن فعل السبب: يفوض الأمر بإطلاق إلى الله سبحانه، ويعلم بمقتضى توكله: أن ألطاف الله أعم من الأسباب البشرية المنظورة.. ولا يتحقق كمال التوكل إلا بتحقق كمال الإيمان بالله سبحانه؛ ولا تشرع إلا بأن تكون بالله وحده؛ فمن حقق العلم بهيمنة الخالق سبحانه وتعالى: صغرت عنده قدرة المخلوق.. وأما من ترك الأسباب وهو قادر عليها: فليس فعله مشروعاً، ومن ثم لا يكون توكلاً على الله؛ لأن الله لا يعبد إلا بما شرع؛ وإنما ظن بعضهم أن التوكل على الله، وعدم فعل الأسباب: ليس مشروعاً وحسب؛ بل هو غاية الإيمان؛ واحتجوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتفق عليه عندما عرضت الأمم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرأى أمته ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب؛ ووصفهم صلى الله عليه وسلم بأنهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.. قال (النووي) رحمه الله تعالى: ((هؤلاء كمل تفويضهم إلى الله سبحانه تعالى؛ فلم يسمعوا قول أحد في دفع ما أوقعه بهم؛ ولا شك في رجحان هذه الحال، وفضيلة صاحبها؛ وأما تطبُّبه صلى الله عليه وسلم: فقد كان لبيان الجواز))؛ وقبل (النووي) ذهب إلى هذا (الخطابي).
قال أبو عبدالرحمن: الصواب أن التوكل على الله توكلاً يلغي الأسباب المقدور عليها: ليس توكلاً شرعياً فضلاً عن أن يكون صاحب هذا التوكل أرفع مرتبة؛ وأما الاحتجاج بالحديث المذكور آنفاً فهو احتجاج بالنص في غير موضعه؛ وذلك من أمور: أولها ليس في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ذكر لأسباب هي جلب الرزق، وطلب الولد، والحرف، والصناعات، والزراعة؛ وكل هذه الأمور رتب الله حصولها على فعل أسبابها، وقد علم بضرورة الشريعة: أن من ترك هذه الأسباب وهو قادر عليها يكون عاصياً له.. وثانيها أن من آلمه ضرسه ألماً شديداً وصبر عليه بقية عمره صبراً يعاني فيه ألماً؛ فلا يستحضر عبادته ربه, ولا يستقيم سعيه في حياته وسكنه: فلا يكون صبره قربة ولا توكلاً؛ بل يكون آثماً في تركه بذل الأسباب بعلاج يسكن الضرس أو يقلعه؛ وهذا تطبب ليس في حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ وإنما المذكور في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الرقية والكي والتطير.. وثالثها ورد الشرع المطهر بالرقية من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، ووردت النصوص الآمرة بالدعاء المرغبة فيه؛ والرقية الشرعية نوع من الدعاء واللجاء إلى الله؛ فلا يجوز بعد هذا أن يقال: إن الرقية للجواز وحسب؛ بل هي مندوب إليها مرغوب فيها؛ فصح أن المنفي في حديث ابن عباس رقى غير شرعية كالتعويذ برقية عن ألم لم يقع بعد، وكالرقى بألفاظ غير مشروعة؛ فالمنهي عنه إذاً من الرقية هو المشار إليه في حديث ابن مسعود رضي الله عنه (عند أحمد وأبي داوود).. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك.. ورابعها أن المحقق في المتن رواية البخاري, وهي كلمة (لا يكتوون) بدل (لا يرقون)؛ والكي آخر الطب؛ فيكون بعد يأس من الأسباب, والتوكل خلاف اليأس؛ وحينئذ فالكي جائز, وتركه أفضل.. وخامسها أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير؛ دلالة على صدق التوكل؛ فهو عن رقة القلوب؛ ورقة القلب مطلب شريف بنصوص شرعية عديدة؛ أورد (البقاعي) في كتابه (أسواق العشاق) قول رجل من قيس لرجل من عذرة: والله ما قلوبكم إلا كقلوب الطير تهفو من العشق؛ ولا يزال من أحدكم يموت عشقاً.
قال أبو عبدالرحمن: هكذا تفهم قلوب الطير؛ ولو فرض جدلاً أن الحديث عن التوكل: لكان المراد التوكل مع تعاطي الأسباب؛ لأن الطير مع رقة أفئدتها تغدو لفعل الأسباب.. وسادسها مما يدل على أن التوكل يكون مع تعاطي الأسباب: حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه والحاكم.. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا.. وللبيهقي في كتابه (شعب الإيمان) كلام مليح حول هذا الحديث؛ إذ قال: ليس في هذا الحديث دلالة على العقود عن الكسب؛ بل فيه ما يدل على طلب الرزق؛ لأن الطير إذا غدت فإنها تغدو لطلب الرزق؛ وإنما أراد والله أعلم: لو توكلوا على الله سبحانه وتعالى في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم، ورأوا أن الخير بيده ومن عنده: لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين كالطير؛ لكنهم يعتمدون على قوتهم وجلدهم ويغشون ويكذبون ولا ينصحون، وهذا خلاف التوكل، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.