د. محمد بن إبراهيم الملحم
بعد أن تحدثت لكم فيما سبق عن المختبرات والوسائل وأهمية كل منهما لتحسين جودة التدريس وجعل منها متعة للطالب وراحة للمعلم حيث تختصر الزمن وتسهل مسألة الشرح والتفصيل، فإن هناك قضية موازية لهما ولكنها لم تجعل من مكونات المدرسة لدينا كما هو حال المختبر أو الوسيلة، ألا وهي الورش التدريبية، وأقصد بها ورش الأعمال الفنية المهنية التي تخلو منها مدارسنا وكأن هذا المجال حكر على التعليم الفني والمهني ومحرم على مدرسة التعليم العام، بينما في الدول المتقدمة تعمل الورشة على إكساب طالب المرحلة المتوسطة والثانوية الحد الأدنى من مهارات العمل اليدوي المهم لحياة الإنسان ليتمكن من التعامل مع المشكلات البسيطة ويصلحها بنفسه وهو ما يعرف بـDIY أو اعملها بنفسك Do It in Your self وهي ثقافة شائعة هناك، بينما لدينا لا يعرف كثير من الناس مسك مفك الكهرباء أو مفتاح السباكة البسيط! لقد استبشرت خيرا عندما تم ضم التعليم الفني والمهني للتعليم العام وترقبت أن أرى بشائر شيء من هذا القبيل تظهر في مدارسنا ولكن مع الأسف لم يتغير شيء ولم يكن لهذا الضم أي انعكاس إيجابي في هذه المسألة! اذهبوا إلى المدارس الثانوية في الغرب وانظروا كيف يمضي الطالب جزءا من وقته ضمن الجدول المدرسي في ورشة نجارة أو كهرباء أو ميكانيكا أو حتى مطبخ طهي أو ورشة خياطة وحتى ورش الملتي ميديا استحدثت مع ثورة هذا المجال ليمارس فيها الطلاب مهارات الإخراج والتصنيف والطباعة وما إلى ذلك، وكل هذا شاهدته شخصيا، صحيح أن تعلم طلاب ثانوية التعليم العام هذه المهارات لا يرتقي إلى التفصيل والمقدار الذي تجده في ثانوية التعليم الفني والمهني ولكنها مقررات (مدعومة بورش مجهزة) تقدم له الحد الأدنى من المهارات التي تساعده على مواجهة متطلبات الحياة اليومية في منزله أو سيارته أومزرعته أو حتى مجال عمله إذا توظف بعد الثانوية.
لماذا لا يتعلم أولادنا وبناتنا هذه المهارات؟ ولو طرحنا هذا السؤال على واضعي سياسات المناهج التعليمية لدينا فما هو جوابهم يا ترى؟ ونتشوق أن نفهم منهم ماهي نظرتهم نحو ذلك! أعتقد أن الاستثمار في هذا المجال له مردوده التنموي العالي وله قيمته التعليمية الواضحة، فهذه المهارات هي أظهر ما يمكن أن يلمسه من يقيم التعليم لدينا ومخرجاتها ستكون كعين الشمس المشرقة في رابعة النهار، ليس هذا فحسب بل هي ستملأ فراغا مهما في حياة طائفة كبيرة من طلابنا اليوم وهم فئة من الطلاب (والطالبات) إبداعهم يتبدى في المهارات العملية أكثر بكثير مما يحققونه في المهارات العقلية التفكيرية، ولذلك فهؤلاء يصابون أحيانا بالإحباط لأن كل المواد الموجودة تقريبا لا تتواءم مع طبيعتهم الشخصية التي تميل إلى الجانب الحركي اليدوي، فلا يحققون مستويات عالية أبدا، ولو وجدت هذه الموضوعات المهنية والتي سيتفوقون فيها بالطبع لحققت جانبا من إشباع الذات لدى هؤلاء ليدعم حالتهم النفسية ويرتقي بهم، بل ربما ينعكس ذلك أيضا على حماسهم في موادهم الأخرى ذات الطابع التفكيري.
جانب آخر مهم ينبغي أن نتنبه له هو أن الطالب ربما خطر بباله أن يلتحق بالتعليم الفني والمهني في الجامعة أو في كليات التقنية مثلا ولكنه لم يفهم ذاته بعد وإلى أي مدى يمكنه أن ينجح في هذا المجال، ولو وجدت الورش المهنية كموضوعات أساسية في التعليم الثانوي لساعد هذا كثيرا على استكشاف الطلاب لذواتهم وفهمهم لمهاراتهم (ويساعد كذلك أولياء أمورهم ومعلميهم)، كما أن توافرها في المرحلة المتوسطة أيضا قد يشجع بعض الطلاب على التفكير في الالتحاق بالثانوية التابعة للتعليم الفني والمهني وهو مسار لطالما ينادي به المخططون للتنمية لدينا ويرون أنه أساسي ليتسنى سد ثغرة العمل المهني بواسطة المواطن السعودي بدلا من الفني الأجنبي الذي يملأ شركاتنا ومجالات عملنا المهمة والحساسة أحياناً. عموما يظل التساؤل المحير قائما وينتظر الإجابة: لماذا لا يدرس أبناؤنا وبناتنا المهارات المهنية والفنية في مدارس التعليم العام؟