د. عبدالله بن سعيد الأسمري
الحياة جميلة، هكذا هي في نظري، وعند سائر البشر. وما يطرأ عليها من كدر وغمّ وهمّ يخفف وطأته الشعور بأنه طارئ، ومآله للزوال، طال زمانه أو قصر. والحياة الدنيا منذ بدء الخليقة تعرضت للمنغصات وما يكدرها، سواء بفعل البشر مباشرة من الإعراض والغفلة عن الهدف الذي خلقهم الله من أجله، أو بما ترتب عليه - بإذن الله - من العقوبات.. فكم من داهية دهياء أصابت هذه الحياة في مقتل. وما هذه الجائحة العالمية التي أصابت الحياة بالشلل في أركانها، وعطلت مسارها، إلا إحدى هذه السهام.
وإذا كان السبيل الأمثل لسعادة الإنسان في الحياة هو متعة التحرك كيفما شاء ومتى شاء، وفق القوانين وأعراف البشر في حياتهم، فإن الحجر المنزلي هو طوق النجاة بعد الله للعودة لما كنا عليه من نعيم الحياة في شتى مجالاتها. وهنا ومضات:
- منها أن لنعمة لزوم البيت وتقييد الخروج إلا لضرورة قصوى أكبر الأثر في مراجعة الذات، والتقليل من الملذات، والتفكير الجاد في كل ما هو آت.
فإن التخلي عن المساجد والجُمع والجماعات رغم فضائلها وعلو مكانتها يجعلنا نفكر بشكل واقعي في نعمة التفرغ للعبادات قلبًا وقالبًا برقابة ذاتيه ربانية خالصة، تحقق التحلي، والوصول للغايات التعبدية والكمالات التربوية الذاتية والأسرية، بعد أن قل ما يشغل القلب من أمور كثيرة مثلما كان في السابق لعدم الاهتمام بترتيب الأولويات. يقول ابن القيم - رحمه الله - في طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 18): «والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه، فبقدر ما يدخل القلب من همّ وإرادة وحب يخرج منه همّ وإرادة وحب يقابله؛ فهو إناء واحد، والأشربة متعددة؛ فأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره، وإنما يمتلئ الإناء بأعلى الأشربة إذا صادفه خاليًا، فأما إذا صادفه ممتلئًا من غيره لم يساكنه حتى يخرج ما فيه ثم يسكن موضعه؛ كما قال بعضهم:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا خاليًا فتمكنا».
- ومن آفاق الحجر المنزلي أن العقل يستطيع أن يعيد التفكير والتأمل فيما سلف من أمور كمالية، كانت وباء أشد من الوباء ذاته، وبسببها تُقترف كثير من المحظورات، منها الإسراف في الولائم والمأكل، وغير ذلك من أمور حياتية، امتزج فيها الإسراف والتبذير. قال الراغب: (السرف: تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر).
ويقول الإمام الشافعي: (التبذير إنفاق المال في غير حقه).
وحل محل هذا كله أثناء الحظر ترشيد الاستهلاك، والتيقن بأن كثيرًا من الأشياء لم تكن ذات أهمية بالغة، وقد تهدم بناء الأسرة بالطلاق من أجل فواتها أو عدم تحققها، مثل الولائم والسفر وكثرة التسوق والتبضع لغير حاجة، وكثرة الزيارات المجدولة واللقاءات المقننة. وخبت وانطفأت جذوة حب الظهور والتصوير في السنابات، وأصبح ذروة سنام الكرم اتصالاً بعزيز غالٍ أو رسالة اطمئنان أو مكالمة عبر الاتصال المرئي، تغني عن تلك المعارك الطاحنة التي كانت جل اهتمام البعض، واليسير يغني عنها.
- ومن ومضات الحجر المنزلي أن الأسر أعادت ترتيب أولوياتها، ومن أهمها الانضباط وفق ما تقرره الدولة؛ لأن الكل تيقن بإخلاص دولتهم لهم من خلال رواتب تُدفع، وإجازات تُمنح، وسهر على صحة المواطن والمقيم.
- وكذلك الشعور الجمعي بالمسؤولية الوطنية من خلال عدم الرضا عن أي فعل من شأنه الإخلال بنظام إجراءات الحظر؛ لأن في ذلك عدم مراعاة لمصلحة الوطن والمواطن.
- ومن الومضات الجميلة أيضًا أن المجتمع تولد لديه قناعة بأهمية التخصص في أي مجال، بداية من رب الأسرة وربة المنزل، وانتهاء بالمسؤوليات كافة التي نجني ثمارها بسلامة الوطن وساكنيه.
- ومن الومضات المهمة والقناعات التي اكتسبها المجتمع في الحظر التأمل في عدد العمالة التي يعج بها كل حي، ومدى جدوى ذلك، الذي ربما يغني عنه شركات بإشراف الدولة، تؤمّن ما يحتاج إليه سوق العمل في المناشط كافة بعد الاكتفاء من الأيادي السعودية المخلصة في كل المجالات.
- في الحجر المنزلي أصبح الصبر سجية، وتحمُّل تصرفات بعضنا أكثر فائدة.. وكل هذا ممكن من قبل ومن بعد، لكن كان للتفرغ والتأمل والوجدان الجمعي كبير الأثر في تحقق هذه المزايا الجميلة.
- ومن الومضات تفعيل التعلم عن بُعد من خلال الدورات التدريبية المجانية، وأداء الاختبارات بشكل مميز مسؤول، والتدريب الذاتي، والمراقبة الأسرية للتعليم عن بُعد، واستخدام التطبيقات الذكية في البيع والشراء.. وهذه من أكثر الميزات التي استفادت منها الأسر أثناء الحظر، والشعور بأهميته فيما بعد كورونا.
واختر لنفسك حظها
واصبر فإن الصبر جُنَّة
آخر السطر:
كن أنت لأنك جميل كما أنت.