د. صالح عبدالواحد
وصول شخصية غير طبية، بالكاد يتحدث اللغة الإنجليزية، لمنصب مدير منظمة الصحة العالمية قد لا يعده البعض أمرًا غريبًا (رئيس المنظمة الحالي خريج كلية أحياء، حاصل على «دبلوم» علوم صحية من جامعة لندن، وكان آخر منصب يشغله في بلاده إثيوبيا هو وزير الخارجية).
ولكن عندما نعرف مدى أهمية تولي هذه المناصب الدولية، التي بذل اليابانيون من أجلها الغالي والنفيس، يتبادر للذهن سؤال ملح:
لماذا لا تصل شخصية سعودية لإحدى هذه المناصب العالمية كهذا المنصب رغم تفوق الشخصيات السعودية؟ بما لا يمكن مقارنة مستواهم مع من هو في هذه المناصب حاليًا!
في تاريخنا المعاصر هناك عدة شخصيات قادرة على أن تتبوأ عددًا من هذه المناصب، أذكر منها شخصين فقط، إذ لا يمكن حصر عدد عمالقة السياسة والإدارة المؤهلين في المملكة العربية السعودية لهذه المناصب.
الغرض من هذا المقال هو تحفيز الجهات المسؤولة لعلنا نرى جهة متخصصة للأبحاث في دعم المؤهلين للترشح للمناصب القيادية العالمية، وتقديم الدعم لشباب وشابات الوطن ومتابعة ترشيحهم.
إن وصول أبناء الوطن لهذه المناصب يعتبر أفضل رسالة يمكن إيصالها إلى العالم لتعكس مستوى التقدم الذي وصلت إليه البلاد وقيادة السياسة العالمية وفق المفهوم السعودي في الإدارة.
غازي القصيبي -رحمه الله- خاض معركة منصب إدارة اليونيسكو، ولم يصل، مع أنه لا يقل كفاءة، بل يتميز بالشخصية والثقافة عن اليابانية التي نافسته آنذاك.
لا يوجد أفضل من الدكتور غازي القصيبي الأستاذ الجامعي، وعميد كلية التجارة، والوزير والسفير، ليروي بنفسه تجربته المرة مع منصب لا يزيد إلى رصيده شيئًا على المستوى الشخصي، لكنه يفيد وجود شخصية سعودية في مثل هذا المنصب في لفت الأنظار العالمية إلى المملكة.
تعتبر المحاضرة التي ألقاها في جامعة البحرين درسًا ملهمًا، ليس لطلبة السياسة فقط، لكن لجميع الطلبة والموظفين الذين يعزون مصاعبهم على المكائد. هنا نتعرف على أن «نظرية المؤامرة» هي عذر الفاشلين، كما عبر عن ذلك الدكتور القصيبي في محاضرته.
تحتوي القصة على دروس سياسية هائلة تكشف كيف تنفرد المملكة العربية السعودية في اتباع حسن النية في التعاملات الخارجية، في الوقت الذي تتلقى فيه الطعنات الغادرة من جميع الجهات.
لا تخفى الغصة في صوت الأديب غازي القصيبي خلال روايته لقصة معركة اليونسكو، الغصة بادية رغم أن القصيبي شخصية لا تنقصها المناصب، ويروي القصة وهو يشغل أحد أرقى المناصب الإدارية في بلاده. بالطبع لم يكن عدم الوصول للمنصب سبب الغصة، لكنه ألم الطموح الذي يهاجم المتفوق من جميع الجهات، الطموح الذي يدفع بغازي القصيبي إلى النظر إلى المركز الأول فقط، مستشهدًا بقصيدة الأمير خالد الفيصل:
ما أحب أنا المركز الثاني.. الأول أموت وأحيا به.
في حين تولى رئيس الوزراء الياباني بنفسه ملف ترشيح مندوب اليابان، ساحبًا الملف من وزير الخارجية، معتبرًا أن الفوز بالمنصب «معركة» لن يخسرها؛ كان المرشح العربي غازي القصيبي يحاول معرفة سبب تخلف بعض الدول العربية عن تقديم الدعم خلاف وعودهم السابقة له!
كل ذلك بالطبع توافق مع عدم وضوح الرؤية في المملكة في ذلك الوقت لأهمية تولي هذه المناصب من قبل شخصيات سعودية.
نحن نتطلع اليوم لوجود الدعم للشباب السعودي والشابات السعوديات لتولي بعض هذه المناصب، وهم أكْفَاء لها بلا شك.
رواية الدكتور غازي لتجربته تأتي موثقة ثرية واضحة المعالم، والتوثيق الصوتي للمحاضرة المخصصة لسرد أحداث هذه التجربة في محاضرته في البحرين، مع العديد من المقابلات التلفزيونية التي تمت معه إثر فشله بالفوز بالمنصب، يجب أن يكون ذلك حاضرًا لدى كل من يريد أن يستفيد من تجربة القصيبي الرائعة الفريدة لكل من يريد خوض نفس التجربة مستقبلاً.
لكن لا يمكن أن نترك هذه القصة دون التركيز على أحد أهم أسباب عدم حصول القصيبي على المنصب، وهي «غياب المعلومة» لدى متخذ القرار.
فكم كان لهذه النقطة صدى لدى الدكتور غازي القصيبي، فقد ركز عليها مرارًا في كتابه الصادر عام 2003 بعنوان «حياة في الإدارة» وأعاد التركيز عليها عدة مرات في العديد من مقالاته وأحاديثه وبالتأكيد خلال هذه المحاضرة.
خلال معركة القصيبي كان هناك معلومة بسيطة جدًّا، وهي أن فرنسا -حاضنة مقر اليونسكو- لن تقبل بتعيين رئيس للمنظمة لا يتحدث اللغة الفرنسية!
لقد استمر الدكتور غازي في هذه المعركة طوال عام كامل، استنزف مجهودًا كبيرًا، كان من الممكن توفير كل ذلك لو أن هذه المعلومة الضئيلة غير السرية كانت معلومة لدى السعودية منذ بداية الترشح للمنصب.
لنترك لأنفسنا العنان في تخيل الجهد الضائع والاتصالات التي تُجرَى، بينما تراقب حكومة فرنسا وصول المرشحين للمستوى الثالث من الانتخابات، ثم تقوم عندها بتسريب سؤال «غير بريء»: هل يتحدث المرشح السعودي اللغة الفرنسية؟ رغم أن القصيبي قدم سيرته الذاتية بتفاصيلها الدقيقة لفرنسا منذ أول يوم فكر به في خوض الانتخابات ويظهر منها أنه لا يتحدث اللغة الفرنسية!
ملحمة الدكتور حسين الجزائري مع المناصب الدولية لا تقل إثارة عن ملحمة الدكتور غازي، رغم أن الدكتور الجزائري حقق جزءًا من المهمة.
إن تحقيق «جزء» من المهمة فقط في أعين البعض أقسى من عدم وصوله إلى قمة الهرم.
الدكتور الأستاذ، وأول عميد لكلية طب في المملكة العربية السعودية، ووزير الصحة الأسبق حسين الجزائري، رُشِّح لمنصب المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لمنطقة الشرق الأوسط، وقد غادر منصب الوزارة المليء بالإثارة أيام الطفرة السعودية الأولى ليقوم بعمل إدارة فرع المنظمة.
وافق الجزائري على ترك وزارة الصحة بإحساس الطبيب الذي يرى أن مساعدة بلاده صحيًّا تأتي عن طريق القضاء على الأمراض التي تحيط بالبلاد، وأكثرها آنذاك أمراض وبائية معدية.
وكان للجزائري دور هائل في القضاء على البلهارسيا والتهاب الكبد الوبائي، وتفوقت المنظمة خلال إدارته على الدول الأوربية والأمريكية في بعض الإجراءات، منها ارتفاع تطبيق اللقاح لدى الأطفال لنسبة 80 %.
تم إعادة انتخاب الجزائري لمنصبه في المنظمة خمس مرات بما يعادل ربع قرن دون أن يُرشّح لمنصب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية.
لم يشتك الدكتور الجزائري، فهذا ليس من طبعه، بل أتم عمله بكل إخلاص، ثم عاد إلى وطنه.
لماذا لم تتولَّ وزارة الخارجية متابعة ترقية وترشيح الجزائري ليكون رئيس منظمة الصحة العالمية؟
لماذا يتولى رئيس وزراء اليابان شخصيًا ملف ترشيح مندوب دولته لمنصب اليونيسكو؟
لماذا يصل وزير خارجية إثيوبيا، وهو حاصل على شهادة في الأحياء، إلى أعلى منصب في منظمة الصحة العالمية، ولا يصل إلى هذا المنصب وزير الصحة الاستشاري الجراح الذي أسس التعليم الطبي العالي في بلاده؟
لقد فقدت المنظمة والعالم الصحي خدماته في تأسيس هذه المنظمة تأسيسًا قويًّا، حيث كان لدى الجزائري رؤية إدارية فذة يمكن معرفتها حين أسس كلية طب، وهو حديث التخرج من بريطانيا، مستغلاً زيارة الملك فيصل -رحمه الله- إلى لندن، فقام بترتيب لقاء عميد كلية الطب في جامعة لندن مع الملك فيصل لينهي الإجراءات المطلوبة كافة لإنشاء الكلية خلال ساعات محدودة.
يقول الجزائري: عندما طلب مني وزير التعليم حسن آل الشيخ -رحمه الله- تأسيس كلية الطب، لم أعتذر لأنني لا أعرف، كما أنني لم أقل إنني أستطيع ذلك، فأنا لا أعرف!
بل قلت: أنا لا أعرف كيف، ولكني سوف أستعين بأهل الخبرة.
عندما يكون للوطن رؤية، وعندما يكون الوطن هو المملكة العربية السعودية، فإن الطموح لا حدود له.
عندما نرى الأمير عبدالعزيز بن تركي في قيادة الفيفا، وعادل الجبير في قيادة الأمم المتحدة نشعر وقتها بأن العالم يتجه نحو رسالة السلام والمجد والعلياء بأكثر مما هو عليه الآن.