محمد سليمان العنقري
العنوان ما هو إلا تعبير بسيط عن الدور الريادي والقيادي الذي تقوم به المملكة العربية السعودية لاستقرار أسواق النفط. ففي كل مرة ينحرف فيها قطار أسواق النفط عن الطريق تبذل المملكة كل جهد لإعادته إلى مساره، سواء عند انهيار الأسعار أو ارتفاعها الحاد؛ فكلاهما له الضرر نفسه على الاقتصاد العالمي على المديَين المتوسط والبعيد. فمنذ عقود تعرضت الأسواق النفطية لهزات كبيرة؛ إما لظروف ركود اقتصادي دولي، يهبط بالأسعار، أو ارتفاعات سريعة لأسباب مضاربية، أو لعوامل جيوسياسية دولية. وفي كل هذه الأحوال يأتي تدخل المملكة ليعيد التوازن للسوق النفطية من خلال قدرتها الذاتية المبنية على إمكانيات هائلة بالإنتاج، وأيضًا دورها القيادي بوصفها عضوًا بمنظمة أوبك؛ إذ تلعب دورًا رئيسيًّا في جمع المنتجين من داخل وخارج المنظمة لتنسيق الجهود، وضبط الأسواق بالإمدادات المناسبة. فالشراكة بالحلول دائمًا عنوان رئيسي لسياسة المملكة النفطية؛ فالأسواق مسؤولية الجميع، منتجين ومستهلكين.
فمن خلال ما تطرحه من أفكار للمنتجين، والتزامها الدائم بأي اتفاق يتم التوصل له مع المنتجين من أوبك وخارجها، تسهم المملكة بقيادة العالم نحو سوق نفط مستقرة بإمداداتها؛ وهو ما يؤدي أيضًا لاستقرار ملائم بالأسعار للمنتجين والمستهلكين دعمًا لنمو الاقتصاد العالمي؛ فالنفط هو الدم الذي يغذي جسد الاقتصاد العالمي، ولا يتطلب الأمر العودة لأحداث سابقة منذ سنوات لتأكيد هذا الدور الإيجابي العظيم للمملكة باستقرار أسواق النفط، إنما يكفي أن ننظر للأحداث الحالية التي يعيشها العالم بعد تفشي كورونا الذي أدى للإقفال الكبير؛ وهو ما خفّض استهلاك النفط بقرابة 30 مليون برميل يوميًّا وفق تقارير عديدة. ففي شهر مارس كان هناك اجتماع مهم وحاسم لمجموعة «أوبك +»، أي دول أوبك مع المنتجين من خارجها، على رأسهم روسيا (أحد أكبر منتجي النفط بالعالم)، وكانت حينها بوادر تراجع الطلب العالمي ظاهرة؛ فتقدمت أوبك بقيادة المملكة بمشروع لاستمرار خفض الإنتاج الذي بدأ الاتفاق عليه قبل نحو أربعة أعوام يضاف له، خفض بمقدار 1.5 مليون برميل؛ إذ إن الاتفاق الرئيسي كان سينتهي في الأول من إبريل الماضي؛ وبذلك تعود كل دولة للإنتاج حسب قدرتها؛ فكان استشعار دول أوبك أن ثمة خطرًا يتهدد الطلب العالمي بتراجع غير معلوم بدقة في وقتها، لكن روسيا لم تتجاوب مع هذا المقترح، وفضلت عدم تمديد الاتفاق أو أي خفض إضافي؛ وهو ما أدى لتراجع حاد في الأسعار، انعكس على أسواق المال العالمية وعلى كل المنتجين باتجاه سلبي، إلا أن المملكة أعادت الدعوة بعد فترة قصيرة لجميع المنتجين للتعاون من جديد للتصدي لتداعيات جائحة كورونا على أسواق النفط. وبمجرد توجيه الدعوة من المملكة لدول أوبك +، إضافة لمنتجين آخرين، على رأسهم أمريكا، عادت الأسعار فورًا للتحسن، وحققت أعلى ارتفاع تاريخي بنحو 40 في المئة في يوم واحد، وبعدها تم إنجاز الاتفاق الذي مثل أول خطوة لإعادة ضبط الأسواق، وأسفر عن خفض بمقدار عشرة ملايين برميل يوميًّا بخلاف ما سيخفض من قِبل المنتجين الآخرين إما بالاتفاق الأساسي أو قسريًّا نتيجة تراجع الطلب، وبعد ذلك تعرضت السوق النفطية لتراجع حاد غير مسبوق بشهر إبريل كون الاتفاق لم يكن قد بدأ تنفيذه فعليًّا، ثم عادت الأسعار لترتفع مجددًا لمستويات فوق 35 دولارًا لخام برنت الذي انخفض لما دون 17 دولارًا.
وبعد أن بدأ تنفيذ اتفاق خفض الإنتاج منذ بداية الشهر الحالي (مايو) قامت المملكة بمبادرة طوعية لتسريع إعادة التوازن للأسواق، وخفضت مليون برميل إضافية زيادة على الخفض بالاتفاق الأساسي، وشجعت هذه المبادرة بعض الدول في أوبك على تقديم تخفيضات طوعية بالإنتاج، وهو تأكيد على أن المملكة قائد يسهم بدعم الاقتصاد العالمي من خلال دورها الريادي في كل المبادرات التي تعيد التوازن للأسواق النفطية؛ فالمملكة مستثمر بعيد المدى بنظرتها لسوق النفط، ولديها خبرات هائلة بجوانب السوق كافة، وتنظر إلى مخاطر ارتفاع أو انخفاض الأسعار بعين المستثمر الذي يدرك خطورة كل اتجاه منهما على مستقبل صناعة النفط، والأثر على الاقتصاد العالمي؛ فتراجع الأسعار الحاد يقلص الاستثمارات بنسب كبيرة؛ فكثير من شركات النفط الكبرى قلصت استثماراتها بقرابة 40 في المئة؛ وهذا بدوره سيكون له أثر سلبي حالي بتضرر قطاعات عديدة تخدم شركات النفط، ويؤدي لفقدان آلاف الوظائف، وأيضًا سيكون له أثر سلبي على نمو العرض مستقبلاً؛ فالمخاوف ستظهر إذا عاد النمو للاقتصاد العالمي بوتيرة سريعة، وزاد الطلب على النفط بما يفوق العرض، عندها سترتفع الأسعار بشكل حاد. أما الارتفاع الحاد جدًّا في الأسعار فله تأثير سلبي على كبح نمو الاقتصاد العالمي؛ ولذلك فإن استقرار الأسواق النفطية في غاية الأهمية للطرفين (المنتج والمستهلك)، وهذا ما تحرص عليه المملكة بسياساتها، وتجمع عليه كل المنتجين الرئيسيين؛ ولذلك نجد الكثير من الإشادات بدور المملكة في استقرار الأسواق بالعديد من الدول المنتجة في أوبك وخارجها.
البنوك المركزية عادة هي صمام الأمان لاقتصادات الدول، وتتدخل عند الركود وعند التضخم، وكذلك لمعالجة شح السيولة، أو ضبط الفائض عن الحاجة منها؛ لكي يبقى الاقتصاد مستقرًّا. ولعل مَن شبّه دور المملكة في سياستها النفطية بأنها تقوم بمقام البنك المركزي للنفط وضع هذه المقاربات بين ما تقوم به من مبادرات ومعالجات دائمًا ما تعيد السوق النفطية لمسارها الصحيح. ورغم أن العالم ما زال يعيش فصول معركته مع جائحة كورونا التي ستُبقي التذبذب والتقلبات قائمة في أسواق المال وأسواق السلع، ومنها النفط، حتى يتلاشى هذا الوباء، إلا أن الخطوات الأساسية المهمة لإعادة التوازن للسوق النفطية بدأت عمليًّا بعد هذا التوافق غير المسبوق بين المنتجين من داخل أوبك وخارجها، الذي أدى لاتفاق تاريخي بجهود كبيرة قادتها المملكة بخبرتها وثقلها الدولي المشهود.