د. عيد بن مسعود الجهني
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وانهيار الشيوعية عام 1991 بقيت الرأسمالية عنواناً للاقتصاد الدولي وبقي الدولار مسيطرا وأمريكا (الأخ) الأكبر للعالم اليوم، لكن هل هذا سيستمر بعد جائحة كورونا؟
اليوم دول العالم في مقتل، الأخ الأكبر ومعه الدول الصناعية يتقدمها استطاع النزول على القمر والمريخ والسباحة في الفضاء، وقبلها حسم الحرب الكونية الثانية بقنابله النووية على الجزر اليابانية، لكنه اليوم ومعه الدول المتقدمة عاجزون عن اكتشاف دواء أو لقاح لجائحة كورونا!
والفشل الذريع يعني ضرب الاقتصاد العالمي في مقتل فالمكنة الاقتصادية العالمية رغم أن الوباء لازال في أشهره الأولى بدأت تترنح أمام ضربات هذا الوباء، فالصين الذي رفع الوباء رأسه من على أرضها وهي القوة الاقتصادية الثانية عالميا بدأت تعلن انحدار نسبة نموها الاقتصادي ومع توقف عجلة الاقتصاد عندها انخفض بحدة طلبها على الوقود الإحفوري مثلا، وامتد ذلك إلى انخفاض الطلب على منتجاتها التي يزخر بها العالم شرقاً وغرباً.
الأخ الأكبر صاحب الرأسمالية يتلقى ضربات الفيروس التي أرغمته على غلق اقتصاده بنسبة كبيرة ورغم ضخه ترليونات الدولارات في عروق ذلك الاقتصاد إلا أن ذلك لا يعدو كونه سوى مهدئات مؤقتة.. فالحل هو (قتل) العدو ليخرج البشر من منازلهم ليبدأ دولاب العمل، ومع انخفاض الطلب على النفط وبلوغ سعر برميل نفط غرب تكساس (صفر) قبل أن تعود إليه الحياة ليعود إلى الارتفاع، وتوقف إنتاج النفط الصخري الذي قد يعرض بعض شركاته للإفلاس فإن ذلك يعكس حالة الاقتصاد الأمريكي في زمن كورونا.
وإذا كانت الأوبك والمتعاونون معها قد خفضوا إنتاجهم (9.7) ملايين ب/ي لدعم سوق النفط الدولية لتحقيق سعر مقبول، فإن إستجابة السوق كانت محدودة، وإذا كانت الأوبك وحلفاؤها في النصف الثاني من هذا العام سيعملون على تخفيض إنتاجهم بـ (7.7) مليون ب/ي، وفي أوائل 2021م تخفيض الإنتاج بواقع (5.8) مليون ب/ي فإن حركة الأسعار سادها هبوط حاد، حتى قادت السعودية تخفيضا طوعيا جديدا وانضمت إليها الكويت والإمارات ليكسر سعر خام برنت 30 دولارا وغرب تكساس 25 دولارا للبرميل.
وكما يقولون (مصائب قوم عند قوم فوائد) المستفيد الأكبر في أزمة النفط هم شركات تخزينه في الناقلات في عرض البحر، وامتد إلى الناقلات والقطارات والكهوف تحت الأرض في السويد والنرويج.. والبوارج الموجودة في الأنهار، وبلغت تكلفة تخزين النفط (الثريا) لتبلغ تكلفة استئجار ناقلة نفط عملاقة في البحر حاملة (2) مليون برميل حوالي (230) ألف دولار في اليوم الواحد.
وإذا كان هذا هو حال أحد السلع الهامة (النفط)، فإن حال التجارة العالمية ليس أسعد حظاً بل (أتعس) من ذلك، فالعديد من الشركات العالمية في الصين وأمريكا وأوربا على سبيل المثال انخفضت مبيعاتها بشكل كبير بسبب انخفاض الطلب عليها، بل إن بعض الشركات تلك قد يكون مصيرها الإفلاس.
وعلى الجانب الآخر فإن أحد مقومات الاقتصاد العالمي (البورصات)، وهذه السوق الواسعة الانتشار التي يقودها (الداوجونز) اهتزت اهتزازاً عنيفاً نتيجته الحتمية خسائر فادحة تحمّل عبئها الأكبر صغار المستثمرين، وهذه الضربة الأخيرة أكبر من خسائر أهل الاستثمار في الأسهم عام 2008، وإذا كانت تلك الخسائر عام 2008 تحددت نتائجها بعد فترة قصيرة، إلا أن الكساد الذي أحدثه هذا الفيروس المستجد يبدو أنه مستمر لفترة أطول مما يصعب معه التوقع عن مستقبل سوق الأوراق المالية.
هذه الأمثلة تنسحب إلى قطاعات السياحة والمواصلات والاتصالات والنقل البري والبحري والجوي وكل مرافق ومكونات الاقتصادات المحلية والإقليمية والدولية، كلها مرتبط بعضها ببعض حتى السياحة والتنقلات الداخلية لدولة واحدة هي محل لتلك المؤثرات التي تلحق بالاقتصاد.
على المستوى الدولي على قادة دول العالم إعداد العدة لمواجهة احتمال حدوث دورة جديدة في الاقتصاد العالمي هبوطها مفزع مما يستدعي التدخل السريع من خلال التنسيق العالمي لكل السياسات المؤثرة ومنها السياسات النقدية والمالية والتجارية والاستثمارية وأسعار الصرف قبل فوات الأوان.
هذا التدخل العالمي خاصة مجموعة العشرين تفرضه الضرورة، فالمتوقع أن يسود العالم ركود اقتصادي غير مسبوق في التاريخ وسيشهد العالم عجوزات في الدخل وتدنياً في إجمالي الناتج العالمي ما لم تتحد المنظومة الدولية لوضع سياسات منسقة لتجنب الانهيار الكبير في الاقتصاد العالمي ويخسر الجميع.
إذا سيكون لهذه الجائحة تبعات كبيرة على الصعيد الاقتصادي الدولي، وعالم ما بعدها لن يكون كما كان قبلها بل إن طبيعة العلاقات بين الدول والأفراد في النظام الرأسمالي والثقة بهذا النظام الذي انتصر على الشيوعية وهو يواجه اليوم تحديا حقيقيا يتمثل في رضاهم به كنظام لا زال يضمن لهم حياة أفضل بعد أن فقد عشرات الملايين لوظائفهم واتسعت رقعة البطالة والفقر.
وإذا كان لنا من قول في هذا الخضم من الأحداث إلا أننا نتوقع غروب شمس العولمة التي تقودها منظمة التجارة العالمية التي شُلت حركتها منذ عدة سنوات ولم تعقد اتفاقية واحدة بين مجموعة من دول العالم أوحتى دولتين.. بل إن بعض الاتحادات الدولية كالاتحاد الأوروبي ستلحقه عصا التفرق والتشتت فأزمة كورونا بينت أن بعض دوله ليست على وفاق، وتركت دولا مثل إسبانيا وإيطاليا تداوي جراحها لوحدها.
ثم إن (الديمقراطية) عدوة الشيوعية هي الأخرى لابد أن تشهد إعادة هيكلة نفسها، فالأنظمة السياسية التي تطبقها اهتزت أركانها.. وتحتاج إلى التفكير الجدي في صياغة ديمقراطية جديدة غير تلك التي تطبق داخل دولها بشكل محدد وتفرض على دول أخرى ضمن منظومة دكتاتورية.
وفي هذا العقد الذي ممكن أن نطلق عليه عقد الأزمات الدولية الذي يمكن أن يخرج من رحمة حرب كونية ثالثة، قد لا تكون عسكرية مدمرة وإنما تقاسم نفوذ بين دولتين أمريكا والصين وتحديداً حرباً تجارية كبرى لتستبدل الحرب الباردة التي استمرت لعقود بين الدب الروسي والغول الأمريكي وانتهت بسقوط الاتحاد السوفييتي (السابق).المهم أن النفط قد يمرض لكنه لن يموت فهو عصي على جميع الفيروسات، وهو صديق البشرية الوفي، وإذا كانت دول تتضرر من تدني أسعاره كصاحبة النفط الصخري مرتفع التكاليف أو بعض الدول المنتجة للبترول الإحفوري، صاحبة تكاليف مرتفعة في الإنتاج، فإن دول الخليج العربي تكاليف إنتاجها أقل بكثير من تلك الدول والضرر الواقع عليها أخف رغم اعتماد ميزانيتها على إيراداتها من المداخيل بنسب تبلغ ما بين 65 - 95 في المئة.
وهذه الدول..رب ضارة نافعة.. علها تستفيد من عبر ودروس انحدار الأسعار في الثمانينيات والتسعينيات وعبر هذا القرن، وتعيد شركاته خططها وإستراتيجياتها الاقتصادية والمالية والاستثمارية والإدارية، وتركز على دعم عنصرها البشري، فالإنسان هو رأس المال صاحب التنمية المستدامة وهو المفكر والمبدع الصانع للاقتصاد والصناعة والتعليم والصحة.
وإذا كانت أزمة الكساد هذه قد أبرزت مساوئ العولمة وفضحت بعض الخلل في المؤسسات الدولية التي تدير الاقتصاد الدولي، فإن الدول خاصة دولنا العربية يجب أن تعيد النظر بأسلوب مشاريعها ومراجعة العقود الكبرى والمتوسطة من خلال لجان لهذا الغرض أعضاؤها خبراء متخصصون للإشراف على ترسيتها وتنفيذها لحمايتها من الفساد وسوء الإدارة وبهذا ترشيد حقيقي للإنفاق، ويمتد الأمر إلى جهازها الإداري والمالي خاصة تلك التي تقدم خدماتها للمواطنين في مجالات التعليم والصحة والتنمية والضمان الاجتماعي والسكني والمعيشي.
قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} الأنعام 64.
عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع أهل بيته فقال: (إذا أصاب أحدكم غم أو كرب فليقل: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً) رواه الطبراني في الأوسط.
والله ولي التوفيق.