عبدالوهاب الفايز
نواصل اليوم الحديث حول أهمية الإجراءات الحكومية لترشيد النفقات ورفع كفاءة القطاع العام. هذا التوجه الحكومي الجاد والسريع، بحول الله، سوف يحمينا من التداعيات الخطيرة المترتبة على الأزمة المالية الحالية، فالتشخيص السريع الدقيق للألم هو البداية الجادة للعلاج. الأمر الإيجابي أن الحكومة بدأت بعلاج مشكلتين رئيسيتين، هما: تضخم بند الأجور في القطاع العام، والتزامات المشروعات والبرامج الجديدة، وهذه رغم أهميتها، كنّا نخشى تبعاتها المالية بعيدة المدى خصوصاً أن اقتصادنا يحتاج فترة تكيف هيكلي تؤدي إلى رفع الإيرادات غير النفطية.
رفع الإيرادات غير النفطية كان هو التحدي الرئيس التي واجهته بلادنا منذ سنوات بعيدة، وأول خطوة رئيسية لتحقيق هذا الهدف اتخذتها وزارة المالية في مطلع التسعينيات الميلادية الماضية، ووضعته في أولوياتها. كانت الأرقام عن الإيرادات المتحققة حينها لا تصل إلا بعد ستة أشهر. الخطوة الحاسمة التي اتخذتها الوزارة هي السعي إلى (رفع كفاءة جمع الإيرادات الحكومية غير النفطية).
وعبر مبادرة (إدارة مراقبة الإيرادات) وحسن تدبيرها، حيث طورت الإجراءات المالية والإدارية خصوصاً الربط الآلي الذي يسر المتابعة والمراقبة التي تتطلب آلاف الموظفين، نجح المشروع رغم التحديات الفنية والممانعات البيروقراطية! هذا البرنامج لاحقاً تفرع عنه عدة برامج تقنية ومالية. وثمار هذا التوجه جنيناه في السنوات المالية الصعبة في السنوات اللاحقة، وأصبح قصة نجاح تم الاستفادة منها لإطلاق مشاريع جديدة، وحارب بعض الممارسات، ورفع كفاءة التحصيل وضبط عمليات التوريد لتكون بطريقة آلية.
الأمر الإيجابي هو استمرار وزارة المالية بهذا التوجه، وشهدت السنوات الماضية ارتفاع الإيرادات غير النفطية لأرقام قياسية، وهذا النجاح تحقق نتيجة النقلة النوعية في الخدمات الرقمية الحكومية، وتطوير قواعد البيانات، والتشدد في المتابعة وتطبيق العقوبات والغرامات. ومرة أخرى، ها نحن الآن بيدنا آلية مطورة لجمع الإيرادات سوف نرى أثرها الإيجابي الآن وفي السنوات الصعبة القادمة.
ترشيد النفقات التي لم يعرفها القطاع العام، بالذات في بند البدلات والمميزات وعقود الشركات الاستشارية العالمية، كان خطوة إيجابية كنا ننتظرها قبل الأزمة. الآن نحتاج إرادة الدولة لمواصلة رفع كفاءة جمع الإيرادات من مجالات لم تباشرها الحكومة بقوة، مع الأسف، رغم أنها مجال للإيرادات المالية الكبيرة والتي يذهب أغلبها خارج الاقتصاد الوطني، بل هي التي تشكل المصدر الأكبر للتحويلات الخارجية.
المجال الذي تأخرنا كثيراً في السيطرة على مخاطره الواسعة علينا هو تجارة التجزئة. هذا القطاع ظل مستثنى من الرسوم والضرائب، ورغم التدفقات النقدية الكبيرة ظل يتعامل بـ(الكاش)، ولم نسمع عن الاتجاه الإجباري لإدخال النهايات الطرفية الرقمية للدفع إلا مؤخراً، وهذا الوضع حدث مع محطات البنزين. إذا نحن نجحنا في مجالات عديدة، فإننا أخفقنا في تنظيم قطاعين حيويين للتجارة الداخلية، أضعنا فرصة مضافة كبيرة للعمل والتجارة وللإيرادات، وقللنا دورة الريال في الاقتصاد، لأن (القادرين على التمام) كانوا عاجزين! الآن هذه الأزمة تقدم الفرصة الذهبية للإصلاح، ومن يأتي متأخراً فقد أتى.
المجالات الأخرى للإيرادات غير النفطية، التي تحتاج التطوير وتعتبر مجالاً خصباً للتدفقات النقدية التي أكثرها تتم معاملاته بـ(الكاش) نجدها في قطاع المقاولات والعمليات الإنشائية الصغيرة والمتوسطة، وحتى في الإصلاحات المنزلية، فهذه تتم بدون عقود، وهذا جعلها مصدراً لتداول النقد خارج النطاق البنكي، ولهذا مخاطره الأمنية، وتفتح الباب للمنازعات والخصومات وضياع الحقوق بين الأطراف.
أيضاً قطاع البلديات يشكل مجالاً خصباً لجمع الإيرادات، ويقدم فرصة لتنمية إيرادات جديدة، والوزارة لديها فرص واسعة لتنمية الاستثمارات البلدية. أيضاً وزارة البيئة والزراعة لديها مجالات عديدة لرفع كفاءة جمع الإيرادات وتنميتها. كذلك هناك حوالات العمالية الخارجية التي تتم بطرق خارج النطاق البنكي، وهذه تشكل خسارة في الإيرادات وتحمل مخاطر على أمننا الوطني.
أمامنا فرصة كبيرة للمضي في مشروع رفع كفاءة جمع الموارد المالية المقررة سابقاً عبر الآليات التي تضمن العدالة وتحقق المصلحة العامة، وتضمن الاستقرار المالي، وبدون تكلفة سياسية، وهذا المهم.