د. حسن بن فهد الهويمل
القارئ المفتوح على كل الخطابات، كالذي يمشي في مفازة، مليئة بالخشاش، والهوامِّ، والسباع، لا يدري متى تلسعه، أو تلدغه، أو تنشب فيه أظفارها.
في الانفتاح لذة، وفيه خطورة، وما من مفكر معاصر إلا وأصابه دخن من تلاطم الأفكار، والمذاهب المادية.
بعض المفكرين بذكائه، ودهائه، وغزارة معارفه ينساب كالخدر في فكر المتلقي.
علماء، ومفكرون متبحرون، قادرون على الإثارة، والإمتاع، والاحتواء، يجتالون المشاهد، ويستدرجون المبتدئين. ويحتنكون القابلين للتضليل، وكم من قارئ حام حول الحمى، ثم انتكس في حمأته. وإذا جئت تجادل عن نفسك صدمتك حجة المغوين: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}.
ثم يكون التبرؤ، والتنصّل من المسؤولية، وتلك مقولة كل داعية سوء: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}.
موائد الفكر متنوِّعة الطعوم، متعدِّدة الفوائد. والمغرم لا يجد قدرة على التخلِّي. فالمشاهد تموج بمختلف التيارات. والقراءة تبدأ هواية، أو عبثاً، أو حباً للاستطلاع، ثم تتحوّل إلى إدمان. والذين خبروا الكتب، وما تحويه من علوم، وتجارب، وتاريخ أمم، لا يجدون القدرة على توقي المزالق، ولكن حسن النيَّة، وسلامة القصد، والقراءة لتصور الخصم، والتصدي له. قد تساعد على السلامة، وكما قيل في الأمثال: (النِّيةُ مَطِيَّة).
في (مكتبتي) حقول معرفية لمن هبَّ، ودبَّ. فرضها عليَّ حب المعرفة، والاستطلاع. وتقصي الصراعات الفكرية. هذه الحقول تضعك وسط المعمعة من حيث تريد، أو لا تريد.
من أخطر الحقول حقل (القراءات المعاصرة) للقرآن الكريم.
لقد بسطت القول عن تلك الظاهرة المخيفة، وأنا أكتب في (السيرة الذاتية) عن مكتبتي، أرجو التمكّن من إخراجها لقراء السرديات السيرية.
تعقب المخبصين في أخطر القضايا، يؤكّد أن المبشِّرين، والمستشرقين، والمستغربين جَرُّوا أقداماً، فأزلقوها، واستدرجوا أفهاماً فأضلوها، ولا سيما أنهم وجدوا من يشرعن لمشاريعهم، ويطرد الغربة عنهم، ويقعد معهم حين يخوضون في آيات الله بغير علم، ولا ورع. وأعداء الإسلام شُغْلهم الشاغل استدراج المثقفين الذين لم يؤصلوا لمعارفهم، ليشيعوا بينهم الشكوك، والشبهات، والأهواء، وحين يتقحم هذه المشاهد من لا علم عنده، تهوي به الأفكار الضالة في مكان سحيق.
(القرآن الكريم) هو الحصن الأقوى للأمة المسلمة، وهو المعجزة الخالدة، والتشكيك فيه، وأنْسنَتَه، ونزع القداسة منه، ودعاوى الأسطرة مَهَّدت الطريق لضعاف الإيمان، والمعرفة، والورع، وأغرتهم المشاهد، والأضواء، ومزيد الاحتفاء، ونسوا أنهم أمام كلام الله قطعي الدلالة، والثبوت.
لقد أبدى المخبصون أعناقهم، وخدعوا الجهلة، والمرتابين، وأصبحت ظاهرة القول بلا علم، ولا هدى، ولا كتاب منير، من الظواهر التي تحكم المشاهد.
لا شك أن مثل هؤلاء المخبصين، أثاروا علماء الأمة، وحدوهم للتصدي، والتحدي، والصمود، وذلك من فضل الله على (أهل السنَّة والجماعة) فلولا هذه التقحمات السخيفة، لظلت علوم القرآن في الظل.
حضور القرآن كان لاستعادة الإسلام من خاطفيه، ولأن القرآن كلام الله محفوظ، فقد كان الصراع الفكري يجري لصالح الحق.
عمالقة، وأساطين مجندون تعلّموا القرآن للتشكيك فيه، آمنوا بعد كفر، وتيقنوا بعد شك، وتحولوا إلى دعاة حق.
وقفت مليًّا أمام حقل (القراءات المعاصرة) في مكتبتي، وقرأت كعوب الكتب التي تدور حول هذه الظاهرة، وأيقنت أن الحق يصرع الباطل، وأن هذه الفئات المجنّدة تستدرج علماء الأمة لتعقب الضلالات.
لقد طفح على السطح مُخِفُّون كالبالونات المنفوخة، بدت سوءاتهم أمام الملأ.
فمن منا لا يعرف (محمد أديب شحرور) و( محمد أركون) و(نصر حامد أبو زيد) و(أدونيس) وعشرات غير أولئك الضالين المضلين، الذين راد لهم الأعداء، وحفظ ساقتهم الملحدون، ولكن الله أطفأ نورهم، وهم قد جنّدوا أنفسهم ليطفئوا نور الله بأفواههم.
لقد انتهكوا قداسة القرآن بأنسنته، وزعزعة ثوابته، وأدلجته، وألبسوا ثياب التنوير للتدمير، وتشبعوا بالتعالم، والتفيهق، وراوحوا بين الهرمونيطيقا، والغنوصية، واتخذوا منهجي (البنيوية)، و(التفكيكية) مطية للتأويل الفاسد، ولا نهائية المعنى، وتأويل الفهم.
لقد قالوا عن القرآن أنه منتج ثقافي، وليس وحياً، وقد يكون القرآن عند البعض منهم إيحاءً شعوريًّا، وليس وحياً ربانياً.
لقد خبصوا في (النسخ) و(المكي) و(المدني) و(أسباب النزول) و(التاريخي) و(الأسطوري). واعتبروا التأويل، والمجاز أصلاً، واستبعدوا القراءة البريئة، حتى في التفاسير القديمة. نزعة التأويل بهذا المفهوم أدت عندهم إلى نزع الثقة من مركزية الدلالة، مما أدى إلى إلغاء الأحكام، والحدود.
وفاتهم أن للنص طبيعة، ووثوقية، وموضوعية، وأنه المهيمن على الواقع، والعقل. أنا لا أمنع القراءة الجديدة، بضوابطها. أما أن يأتي جهلة مارقون عملاء للتشكيك، وأنسنة القرآن، والادّعاء بأن الأنسنة حتمية، لأن القرآن بعد نزوله تلبس باللغة الإنسانية، والتاريخ الإنساني. ولم يعد مقدساً بعد ذلك.
لقد تصدى لهذه الفئات علماء أجلاء، جمعوا بين المعرفة، والنزاهة، واحترام الثوابت، وإن راوحوا بين الشدَّة، والحِدَّة، والحدِّية، والتوسط.