يعد التخاطر مظهراً من مظاهر الحاسة السادسة، فهذه الحاسة لها مظاهر متعددة ومتنوعة، منها على سبيل المثل لا الحصر: الاستبصار، والتوقع والمعرفة السابقة، ومصطلح التخاطر صاغه عالم يدعى (فريدرك مايرز) عام (1882م)، وهو يعني القدرة على التواصل، ونقل المعلومات من عقل إنسان ما إلى عقل إنسان آخر من غير واسطة أو بشكل أدق وأوضح من غير الحواس الخمس. من هنا فالعلماء يرجعون أصل التخاطر إلى القرن التاسع عشر، بناء على ما قاله العالم (روجر لوكهرست)، حيث إن المجتمعات العربية لم تهتم بعلوم «المخ» قبل هذا القرن، وبعد الثورة العلمية في المجالات الفيزيائية، تم تطبيق هذه العلوم لفهم الظواهر السيكولوجية الغريبة لمفهوم التخاطر.
ومن الممكن أن يمارس الإنسان هذه الظاهرة دون علم منه بذلك، وغالباً ما يحدث هذا التواصل بين التوائم وبين الأم وأبنائها وبين المتحابين وعن طريق ترددات وذبذبات معينة، قد تصل المسافة فيها بين العقلين إلى آلاف الكيلومترات، يحدث التخاطر كما قرر ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، حين قال: (الأرواح جنود مجندة ما تلاقى منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف). وقد شهد التاريخ حالات تخاطر تم فيها نقل الأفكار بين الأشخاص مثل حديث الصحابي الجليل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لسارية بن الحصن، فقد رُوي أن عمر بن الخطاب كان يخطب على المنبر في المدينة خطبة الجمعة، فالتفت من الخطبة ونادى بأعلى صوته: يا سارية بن الحصن «الجيل الجبل» فلما سئل عن تفسير ذلك، قال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتافهم وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوه وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا، فخرج مني هذا الكلام، ثم قال الراوي للحديث: جاء البشير بعد شهر، فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم وفي تلك الساعة صوتاً يشبه صوت عمر بن الخطاب يقول: يا سارية بن الحصن الجيل الجبل، فعدلنا إليه ففتح الله علينا.
ويقول العلامة ابن عثيمين معلقاً على هذه الحادثة ما نصه: «يستفاد من ذلك ثبوت كرامات الأولياء وهي كل أمر خارق للعادة يجريه الله تبارك وتعالى على يد ولي من أوليائه تكريماً له وتصحيحاً لمنهجه الذي يسير عليه، ولكن من هو الولي؟ الولي هو المؤمن التقي، قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) (سورة يونس)، والكرامة قد تكون لتخليص الولي من شدة، وقد تكون إعزازاً لما يدعو إليه من دين الله من جهة أخرى.
وخلد التاريخ صورة للتخاطر حية معبرة، فمظاهر قص الأثر وتتبع خطو القدم المعروفة بين القبائل العربية المنتشرة في الصحاري ذات الرمال الشاسعة، والرياح العاتية، من نماذج التخاطر الحية التي عرفها العرب قديماً، والبدو حديثاً، حيث تفردوا بهذا العلم دون غيرهم من الأمم، ولهم في هذا قدرة عجيبة، ومهارة متألقة، وهم يعتمدون على عوامل ثلاثة، وهي التالية: الفطنة، ودقة الملاحظة، والذكاء الفطري.
وقص الأثر ظاهرة ساعدت على اكتشاف الكثير من الأحداث الغامضة في البيئة الصحراوية، ومن أهم الأسباب التي دفعت الإنسان العربي إلى قص الأثر ما يلي: الخوف من الأثر الغريب، ودفع الخطر, والصيد، حيث يقوم بوصف أثر المارين من بشر أو حيوانات معدداً صفاتهم، راسماً أشكالهم بكل دقة وشفافية، فتتجلى لنا في هذا الوصف صورة من صور التخاطر بكل مسمياته المتعددة، فالعربي الأزلي لديه قدرة قوية على التمييز بين الأقدام وتحديد قدم الرجل من قدم المرأة وقدم الشاب من قدم الكهل، ومن هنا تعد ظاهرة التخاطر أقدم القدرات الإنسانية الخارقة التي عرفها الإنسان، والتي يعزى إليها طريقة الاتصال بين بني البشر في العصور القديمة الغابرة كما صرح بهذا المهتمون بهذا العلم، حتى أن هناك قبيلة عربية معروفة بالقيافة يعرفون الأقدام والأرجل تسمى بني مدلج، كانوا يطوفون بالبيت ويرون أقدام إبراهيم عليه السلام في المقام، وحينما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- صغيراً يلعب، حمله أحدهم إلى جده عبدالمطلب، وقال له: هذا منك؟ قال: هذا ابني، فقال: حافظ عليه فإنه أقرب شبهة إلى قدمي من في المقام، يقصدون إبراهيم عليه السلام. وقد كان أسامة بن زيد أسود كالليل حلواً حسناً كبيراً فصيحاً، وكان أبوه زيد بن حارثة كذلك، إلا أنه كان أبيض اللون شديد البياض، وطعن بعض من لا يعلم في نسبه منه، ولما دخل مجزز المدلجي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأى أسامة وزيداً نائمين وعليهما قطيفة قد غطيا رأسيهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، تقول عائشة: فدخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسروراً تبرق أسارير وجهه، فقال: إن مجززاً أبصر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض؟ سُرّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وأعجبه أن يشبه أسامة أباه زيداً، واعتبر شهادة خبير مثل مجزز المدلجي تجعلهم يكفون عن الطعن في نسبه لأبيه نظراً لاختلاف لونيهما. وممن عرف بالقيافة في الجاهلية والإسلام الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وقد روي أن قوماً وفدوا على عمر زاعمين أنهم من قريش، وأنهم جاؤوه ليثبتهم فيها، فقال: اخرجوا بنا إلى البقيع فنظر في أكفهم، فقال: ليست بأكف قريش ولا شمائلها.
وقد أبدع العرب في علم القيافة بنوعيه: قيافة البشر، وقيافة الأثر، واستطاعت المأثورات تخليد وقائعهم في ذلك، وأغلب المتمتعين بهذه الموهبة قد لعبوا على مدى التاريخ دوراً مهماً في التحقيق الجنائي، فأجهزة الأمن الحديثة تعتمد على القائف والقاص للأثر في التتبعات العدلية، والتحقيقات الجنائية.
من هنا فقد عرف العربي الأول، والبدوي القديم علم التخاطر بقصّه وقيافته لآثار البشر، وجاء بنماذج ترقى أحياناً إلى مستوى الخوارق والأساطير، وكتب التراث تتنافس في سرد روائعهم التي ترنموا بها، هذا ويعتقد أن الإنسان الذي كان يعيش على كوكب الأرض -وما زال- قد طوّر قدراته منذ أبد الآبدين، وكان ذلك خلال الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، خاصة مع ظهور الحضارة، وبانتشار الديانات السماوية، حيث إن تلك القدرات بقيت مدفونة بل يشهد التاريخ ويقرر بوجودها كما مرّ معنا سابقاً عند البدو الرحل فيما يعرف بظاهرة قصّ الأثر، وهي ظاهرة خارقة مكنتهم من أداء مهام كثيرة، ومتطلبات عديدة، يحتاجون إليها في حياتهم، كما أنها مكنتهم من البحث عن الناس المفقودين في الصحراء، ويرى البعض من الدارسين والباحثين أن حادثة سارية الجبل دليل على فن التخاطر، وهم يرون أيضاً أن كل إنسان له من القدرات المخزونة الشيء الكثير، وهي تتجلى وقت الخطر، ومما يساعد على تجليها وصقلها بوضوح، الرياضة النفسية، من هنا يحق لنا القول إن العرب عرفوا فن التخاطر وأبدعوا فيه، كما تنافست كتب التاريخ والأدب والتراث في تتبع أحاديث قصّ الأثر، والتغني بطرائفها، والرجز بظرائفها.
** **
- حنان بنت عبدالعزيز آل سيف -بنت الأعشى-
عنوان التواصل: ص.ب: 54753- 11524 hanan.alsaif@hotmail.com