د.عبد الرحمن الحبيب
عندما تتعدد آراء المختصين وتتنافس دون ترجيح، تتشتت أذهاننا فضلاً عن حيرة أصحاب القرار.. فخبراء أوبئة يطرحون رأياً وآخرون يناقضونهم وفريق ثالث يختلف معهما.. اختلافات على شتى المواضيع: الوقاية، العلاج، انتقال العدوى، سلوك الفيروس.. بل وصل الاختلاف على القاعدة الأساسية لمواجهة كورونا، فثمة دول تبنت فرض حظر شامل صارم وأخرى حظر جزئي مرن وثالثة اكتفت بالتباعد الاجتماعي عبر فرضية مناعة الجماعة (القطيع).. هذه الآراء ليست عبثية، بل رصينة مؤسسة منهجياً.. فكيف نختار بينها؟
ما الذي يجعلك تفضل فرضية عندما تكون بين عدة فرضيات متساوية الأدلة؟ وليم الأوكامي، الفيلسوف الإنجليزي بالقرن الرابع عشر، وضع مقص حلاقة فلسفية تجز الزوائد وتسهل علينا الخيار، وأُطلق عليه لاحقاً موس أوكام (Occam›s razor)، يقوم بحلاقة كل الأفكار التي لا ضرورة لها، متأسساً على مبدأ أنه إذا كان لديك نظريتان متنافستان ومتساويتان بالأدلة، فإن الأبسط هي الأفضل. والعبارة المشهورة لأوكام هي: «الموجودات لا ينبغي أن تُعقَّد بلا داع.» وهو ليس أول من توصل لهذا (حتى أرسطو قال بها)، لكنه صاغه كمبدأ مع نهاية القرون الوسطى التي تعج بالتعقيدات الفكرية مما يشابه تعقيد الآراء في وضعنا مع كورونا.
على سبيل المثال، ما قيل من بضعه علماء أوبئة أن سلوك كورونا يدل أنه فيروس غير طبيعي، بل مُصنَّع، بينما يقول أغلبية العلماء إنه طبيعي كغيره من الفيروسات.. فأيهما تختار؟ ثمة مثال مشابه في السبعينات: انتشرت بحقول الحبوب ظاهرة غريبة في عدة مناطق بالعالم، وهي الدوائر الضخمة، وظهرت حينها نظريتان لتفسيرها؛ الأولى تقول إنها بسبب كائنات فضائية، والثانية تقول إنها من أناس عابثين مخادعين. بناءً على مبدأ موس أوكام فإننا نقبل الأخيرة، وفعلاً ثبت ذلك لاحقاً.
ذلك لا يعني أن التفسير الأبسط هو الصحيح، بل إنه أكثر احتمالية بصحته، ومن ثم فهو المفضّل عملياً حتى تظهر بدائل أو أدلة أخرى. لذا يعد موس أوكام توصية منهجية لعدم البحث عن مزيد من التوضيحات المعقدة حين يتوفر توضيح بسيط، مما شكَّل دعمًا قوياً للمنهج التجريبي وساعد على التركيز في نظريات أفضل بدلاً من التشتت.
هذا المبدأ استخدمه الكثير من الفلاسفة مع بعض التعديلات. يقول برنارد رسل أحد أشهر فلاسفة القرن العشرين: «كلما أمكن، استخدم التفسيرات من الكينونات المعروفة بدلاً من الاستدلالات من كينونات غير معروفة.» أما أشهر فلاسفة العلم كارل بوبر فيرى أن تفضيل النظريات البسيطة لا يعني الاحتكام لها لاعتبارات عملية، بل لأنه يمكن تبريرها بوجود الأدلة وقابليتها للاختبار والحكم عليها عبر معيار قابليتها للتزوير وعدم قابليتها للدحض، ويضرب مثلاً بمن يقول لك هناك غول في السرداب لكنك لن تستطيع رؤيته لأنه خفي، ومن ثم لا تستطيع دحض زعمه؛ مثل نظريات المؤامرة التي تقول لك إن الأمر دبر خفية لا يمكنك رصده.
بالنسبة للعلماء، يعد موس أوكام مفضلاً لديهم، فقد أيده اسحق نيوتن: «علينا قبول فقط أسباب الأشياء الطبيعية التي تكون حقيقية وكافية لتفسير ظهورها.» فبالنسبة للميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) يستخدم علماء الفيزياء موس أوكام لحلاقة «الميتا» من «الفيزيقا». ومن هنا فُضّلت معادلات أينشتاين وبوينكير على معادلات لورنتز وماكس ويل في تفسير تحولات الوقت الفضائي لأن الأثير المستخدم في تفسير معادلات الأخيرين لم يكن بالإمكان استبانته، فتم قصه بموس أوكام.
لكن ليس دائماً تنجح هذه المنهجية، فمثلاً الفيلسوف الفيزيائي إرنست ماخ المؤيّد بتطرف لموس أوكام يقول: «يجب على العلماء استخدام أبسط الوسائل للوصول إلى نتائجهم واستبعاد كل شيء لا تدركه الحواس.» وزعم أن الجزيئات ميتافيزيقيات لأنها صغيرة جداً لم يمكن استبانتها آنذاك، لكن حينها نشر أينشتاين بحثاً أثبت حقيقة الجزئيات.. فقال أينشتاين وهو مؤيّد لفكرة أوكام: «هذا مثال مثير عن حقيقة أنه حتى العلماء المغامرين وأصحاب المواهب يمكن حجب الرؤية عنهم بتفسيرات لحقائق عبر أحكام فلسفية مسبقة.» الشاهد ألا نستخدم موس أوكام بطريقة عمياء.
هل فعلاً موس أوكام يحل المشكلة أم يحولها إلى حيز آخر؟ فعندما نواجه فرضيتين متساويتين، وقلنا سنختار الأبسط، فكيف نحدد أيهما أبسط؟ البعض يضع قواعد لذلك، كتفضيل الفيزيقي (الطبيعي) على الميتافيزيقي (ما وراء الطبيعي)، ثم تفضيل الأقل في عدد الموضوعات مع التمييز بين المواضيع النظرية والواقعية..
وفي الخيارات بزمن كورونا، يطلق على موس أوكام عند الاختلاف في الطب «حمار الوحش»: مستمد من قول ثيودور ودوارد الحاصل على جائزة نوبل بالطب (1948) لدوره بعلاجات للتيفوس والتيفوئيد: «عندما تسمع صوت حوافر، فكر بالخيول وليس بالحمير الوحشية»؛ وقاعدتها: يجب على الطبيب رفض التشخيص الطبي الغريب عندما يكون هناك تفسير أكثر شيوعًا.
الأساس في موس أوكام هو السلوك العملي.. والمهم فيه هو الاختيار، دون الغرق بالتفكير المعقد، لأن عدم الاختيار هو غالباً أسوأ من أي خيار، فهو مدعاة للتثبيط ولعدم الإنجاز.. يطرح جين بيوريدان (تلميذ أوكام) مثالاً فلسفياً طريفاً عن الحمار الذي تم تخييره بين كومتي قش على مسافة منه، ولم يجد مبرراً منطقياً لتفضيل أحدهما على الآخر وظل متردداً حتى تضور جوعاً ومات..