د.شريف بن محمد الأتربي
تظل التربية هي الشغل الشاغل لكافة الأسر في مختلف المجتمعات المتقدمة منها أو تلك التي ما زالت تحاول اللحاق بركب التقدم. ورغم ذلك يعد تعريف التربية في حد ذاته مشكلة استعصت على الحل، بل استعصى إيجاد مفهوم موحد يعبر عنها رغم أنها من أكثر المصطلحات تداولاً واستخداماً وشيوعاً بين الباحثين والدارسين والمشاركين في العملية التربوية.
ويختلف مفهوم التربية باختلاف المكان والزمان والبيئة التي قد يُعرف فيها، فما هو خارج نطاق التربية في مكان ما قد يكون داخله في مكان آخر، بل أن الكثير من العامة والعلماء أيضاً ربطوا ما بين التربية وسوء الأخلاق، حيث يتم الإشارة إلى الشخص الذي يقوم بفعل غير مألوف بأنه: غير مترب. وقد اهتمت الحضارات القديمة بعملية التربية مع اختلاف مفهومها حيث كانت تمثل العادات والتقاليد المحافظة التي تهدف إلى تعريف الفرد بواجباته، وأعمال الحياة بجميع أشكالها، وعلاقاتها مع بعضها. أو أنها بثّ لروح الحرية الفردية، والابتكار، والتقدّم، والتجديد، والتطوّر في كلّ المجالات، بهدف وصول الإنسان إلى درجة عالية من السعادة. كما أنها كانت تتلخص في المعرفة وطريقة البلوغ للمجد والثروة. والتربية اصطلاحاً، يُختلف تعريفها باختلاف فلسفة المجتمعات في تهيئة أبناءها من الأجيال القادمة، من خلال إرساء قِيمِها ومعتقداتها. فهي إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام. وهي العمل على تغذية الجسم وتربيته بما يحتاج إليه من مأكل ومشرب ليشّب قوياً معافى قادراً على مواجهة تكاليف الحياة ومشقاتها. وهي تعني الرعاية والعناية في مراحل العمر الأدنى، سواء كانت هذه العناية موجهة إلى الجانب الجسمي أم موجهة إلى الجانب الخُلقي الذي يتمثل في إكساب الطفل أساسيات قواعد السلوك ومعايير الجماعة التي ينتمي إليها.
والتربية هي نتاج خبرات تراكمية تبدأ منذ ولادة الطفل، فكل ما يقوم به ويقدمه له الوالدان في بداية حياته هي عناصر أساسية وقواعد مهمة في إرساء وتنمية التربية في نفوس الأبناء تتحول بمرور الزمن إلى أخلاقيات ظاهرة في المجتمع تبرز من خلال تعامل هؤلاء الأبناء في إطار مجتمعاتهم بمفهومها المتعدد سواء داخل الأسرة، أو داخل المدرسة أو داخل المجتمع العام ويمتد أثرها في مجتمع العمل بعد ذلك.
ومع توجه كثير من دول العالم ومنها المملكة العربية السعودية إلى تعليق الدراسة والتوجه نحو التعليم الإلكتروني والتعلم عن بعد برز تساؤل عن وضع التربية في هذه المرحلة، وما هو دور الأسرة، والمعلمين والمدرسة، ومنظومة التعليم بكافة مسمياتها في دعم تربية الأبناء واستكمالها بما يتفق مع كل مرحلة من المراحل العمرية، ولا يتركوا فريسة سهلة لذئاب الشبكات الاجتماعية، أو أصحاب السوء.
ولعلي أشير إلى صعوبة الرد على هذا التساؤل في ظل هذا الوضع الحالي حيث يعد وضعاً استثنائياً ليس دائماً بإذن الله، لكن ظهرت هناك الكثير من الدعوات التي تنادي بالاستفادة من هذه التجربة بتبني اتجاهات تعليمية جديدة تترادف أو تتقاطع مع أنظمة التعليم السائدة حالياً دون النظر إلى التربية كعنصر أساسي مرادف لعملية التعليم. فالتربية تعمل على نقل التراث الثقافي وتعديله، بإضافة ما هو مفيد، وترك غير المفيد، وكذلك نقل النمط السلوكي المجتمعي والقيام بتعديل الأخطاء فيه. إن التربية تقوم على تعديل سلوك الأفراد وجعلها بمستوى أفضل، وتنوير الأفكار القديمة وجعلها أفكار حديثة وجيدة، وإكساب الفرد خبرات اجتماعية متمثلة في العادات، والقيم، والتقاليد، والمعتقدات، والأعراف الخاصة بالمجتمع الذي يعيش فيه. وكل هذه المخرجات لا تأتي فجأة ولكنها متدرجة بتدرج المراحل العمرية ومنطوية في داخل المناهج الدراسية وتعد أحد أهداف المقررات ومن أهم مخرجاتها.
وبالنظر إلى منظومة التعليم الموحد التي ضمت الملايين من طلاب المملكة نجد أن عملية التربية التي كانت تمارس داخل المجتمع المدرسي لمدة 6 ساعات يومياً لمدة 5 أيام طوال 36 أسبوع دراسي قد توقفت وأصبح العبء كله ملقى على عاتق الأسرة التي أصبح عليها أن تعمل منفردة في استكمال الأسس التربوية التي تبنت المدرسة تنميتها في نفوس الطلاب، وفي ذات الوقت لم تكن الأسرة مهيأة لذلك؛ ومع الوضع في الاعتبار قيام وزارة التعليم بعمل الدراسات اللازمة لهذه الفترة ومن ضمنها التأثيرات التربوية، ومع تصريحات المسؤولين بإمكانية الاعتماد على نظامي التعليم الإلكتروني والتعليم عن بُعد مستقبلاً داخل منظومة التعليم؛ أجد من الضرورة النظر إلى المقررات الدراسية أيضاً وما تحتويه من موضوعات تربوية بحيث يتم إعادة بناء هذه المقررات بما يتناسب مع أسلوب التدريس ويتيح للقائمين على التعليم آفاق أرحب لممارسة دورهم في التربية أيضاً، مع عدم إغفال تدريب المعلمين على بث التربويات المراد تنميتها وترسيخها في نفوس الطلاب بطريقة مشوقة خلال عملية التعلم عبر التعليم الإلكتروني أو التعليم عن بعد.