حمّاد السالمي
«سيقول التاريخ للأجيال القادمة؛ أن وباء (كورونا المستجد covid-19)؛ استحوذ لوحده؛ على أعظم وأوسع (عزلة) عرفها الإنسان في تاريخه. لأن مئات ملايين البشر في أكثر من مئتين وعشر من الدول؛ اضطروا للعزلة الاجتماعية في دورهم، وما عرف الناس قبل تاريخ (كورونا)؛ عزلة اجتماعية بهذا الشكل المفجع، الذي فرق بين الأهل والصحبة والمحبين.
«كانت العزلة فيما مضى من السنين؛ قصيرة المدى أو طويلته، لكنها اختيارية فردية، يختارها غالبًا الفلاسفة والجدليون، أو من بهم مرض نفسي يدفع بهم إلى الانطواء، وعرفها كثيرون من أهل المشرق والمغرب على حد سواء، فأشهر فرقة جدلية كلامية مارستها هي: (المعتزلة)، من أصحاب النزعة العقلية، وأشهر فيلسوف عربي مارسها هو: (أبو العلاء المعري). رهين المحبسين. لكنه مع ذلك يستدرك في واحدة من تجلياته الفلسفية؛ ليفصح عن ارتباطه بمحيطه الإنساني رغم عزلته فيقول:
ولو أنّي حبيتُ الخلد فردًا
لما أحببتُ في الخلدِ انفرادا
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي
سحائبُ ليس تنتظم البلادَا
«هذا الموقف الفلسفي البديع لأبي العلاء المعري؛ يذكرنا بموقف مشابه للفيلسوف: (تشي جيفارا) الذي قال: (العز في العزلة لكنه؛ لابد للناس من الناس). وبموقف ثالث للفيلسوف: (إرسنت همنغواي) الذي قال: (ابتعادنا عن البشر؛ لا يعني كرهًا أو تغيرًا. العزلة وطن للأرواح المتعبة).
«إن العزلة في أبسط تعريف لها هي: عدم وجود اتصال مع الناس، وقد يصعب التفريق بين مصطلح العزلة والوحدة، مع ما لكل منهما من سلبيات وإيجابيات. وللعزلة في قديم الدهر وحديثه؛ أسباب كثيرة، فردية وجمعية منها: العلاقات السيئة، فقد أحبة، اختيار متعمد، اضطرابات نفسية، اضطرابات عصبية عضوية، أو ظروف العمل، ثم أمراض معدية، وهذا ما نعيشه اليوم مع وباء (كورونا).
«وينبغي ألا نغفل؛ أن للعزلة أصلا شرعيا إيجابيا بطبيعة الحال؛ يتمثل في الاعتكاف والعزلة وقت الفتن، ويصح أن نضيف لهما اتقاء شرور الأوبئة كما هو الحال في زمننا هذا (زمن كورونا). وجاء ذكر العزلة والاعتزال في محكم التنزيل الحكيم في عدة مواضع عشر مرات، فقد أثنت نصوص قرآنية على العزلة؛ لما لها من فوائد تعود على النفس والذهن بالصفاء، ولاسيما في حالة تزايد الضغوط النفسية والهموم، وكذلك في حالة الجدل وتفشي الفتن والخصومات، فتصون العزلة دين الإنسان وخلقه ونفسه، بإبعاده عن الحساد، أو المنتقصين والساخرين منه، والمتطاولين عليه، فمن خلالها يتفرغ المرء للعبادة والتأمل والتفكير الإيجابي، والعمل المثمر، والبعد عن مواطن الغيبة والنميمة وسوء الظن، وتجنب مقابلة الثقلاء والحمقى والسفهاء. فمن أشهر المعتزلين في القرآن الكريم؛ نبي الله إبراهيم عليه السلام. اعتزل قومه عندما خالفوه. قال تعالى على لسانه:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا}. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة. ومن قبله نبي الله موسى عليه السلام. كما اعتزل أصحاب الكهف قومهم عندما خافوا على أنفسهم ودينهم. قال تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا}.
«ومع أن للعزلة آثارًا سلبية عظيمة على الفرد والمجتمع، فهي قاطعة وصل، وواصلة لأمراض نفسية جسيمة، وهي مدمرة للحياة والناس والاقتصادات كما نرى اليوم من عزلة (كورونا)، إلا أن للفلسفة رأيا آخر، فهذا (جيم غاريسون) يقول: (العزلة ضرورية من وقت لآخر، لتعيد ترتيب أفكار يبعثرها الأغبياء من حولك). ويقول (ألدوس هكسلي): (كلّما كان العقل قويًّا، كان أكثر ميلًا إلى العزلة).
«ومن باب الترغيب والتحبيب في العزلة والاعتزال؛ يورد ابن الجوزي في كتابه: (صيد الخاطر)؛ ثناءً على العزلة فيقول: (ما أعرف نفعًا كالعزلة عن الخلق، خصوصًا للعالم والزاهد، فإنك لا تكاد ترى إلاّ شامتًا بنكبة، أو حاسدًا على نعمة، ومن يأخذ عليك غلطاتك، فيا للعزلة ما ألذها..! سلمتُ من كدر غيبة وآفات تصنيع، وأحوال المداجاة، وتضييع الوقت). وهو القائل أيضًا: (يا هذا.. إذا رزقت يقظة؛ فصنها في بيت عزلة، فإن أيدي المعاشرة نهابة. احذر معاشرة الجهّال فإن الطبع لص). وهذا أبو بكر العنبري من شعراء العصر العباسي يفصح عن تبرمه بمن حوله ويرغب في العزلة فيقول:
ليت السباع كانت لنا مجاورة
وأننا لا نرى ممن نرى أحدا
إن السباع لتهدأ في مواطنها
والناس لي بها شرهم أبدا
فاهرب بنفسك واستأنس بوحدتها
تلقى السعيد إذا ما كنت منفردا
«ومن غرائب البشر مع العزلة والاعتزال؛ هناك اليوم؛ مليون شاب ياباني يتجنبون المجتمع، واختاروا حياة الاعتزال. وتعرف هذه الظاهرة عندهم بـ(هيكيكوموري hikikomori) وتفسّر ببقاء الناس في منازلهم لمدة 6 أشهر أو أكثر، من دون الذهاب إلى المدرسة أو العمل أو الخروج للاختلاط بالآخرين. وعندما سئل هؤلاء عن كيفية قضائهم الوقت في المنزل، كانت نسبة الذين أجابوا بأنهم يستخدمون الإنترنت أو ألعاب الكمبيوتر؛ كانت في الواقع أقل من أولئك الذين لم ينعزلوا اجتماعيًا. على الرغم من الاعتقاد بأن (الهيكيكوموري) يعيشون في عالم افتراضي، إلا أن الواقع هو أنهم لا يقومون بشيء أثناء انعزالهم الاجتماعي.
«اللهم اخرجنا من عزلتنا سالمين، وردنا لبعضنا غانمين. العواشر مباركة للجميع، وكل عام وأنتم بخير.