د. جمال الراوي
مُعظمنا يعرف تلك الإعرابية، «أُمامة بنت الحارث» التي أوْصت ابنتها في ليلةِ زفافها؛ بعد أنْ خَلت بها؛ فأعطتها خلاصة تجربتها كزوجة، وقد سجّل التاريخ وصاياها، التي تستطيع بها أيّ امرأة أنْ تكون أسْعد زوجة، وتبني لها بيتًا خاليًا من أيّ كدرٍ، ومما قالت لها (للرجالِ خُلِقنا كما خُلِقوا لنا)؛ فلا مناص ولا مهرب مِن أنْ ترتبط المرأة بالرجل، ويرتبط الرجل بالمرأة، فقد رأت هذه الإعرابية بأنّ غاية خلقِهما أنْ يرتبطا ببعضهما؛ لأنّها شراكة فرضها الله، سبحانه وتعالى، عليهما، وقد شطر المصلحة والمنفعة إلى نصفين؛ لا يستطيع أيّ واحدٍ منهما أنْ يعيش دون أنْ يجد نصفه الآخر عند الطرف الآخر.
«أُمامة بنت الحارث»؛ أمٌّ من ذلك الزمان البعيد؛ خاطبت ابنتها وقالت لها: (خُلِقْنا للرجال وخُلِقوا لنا)؛ فقد عرفت بأنّ الغايةَ من خَلقِ المرأة؛ هو أنْ تلتقي بالرجل المناسب لها؛ حتى يُكوِّنا مؤسسّة ربحيّة لكليهما، وحتى يتبادلا المصلحة فيما بينهما، ويستفيدا من الميّزات التي وهبها الله لكلّ واحدٍ منهما، وحتى يَسُدّا نواقصهما، ويْمضيا في طريقٍ قويمةٍ وصحيحة؛ يحدوهما الأمل؛ بأنْ تجلب لهما هذه الشركة الخَيْر والمَنْفَعَة، وأنْ يكون نتاجها ثمرة طيبة من البنون، وحتى يتعاونا ويتعاضدا على تجاوز المصاعب والعَوَائِق؛ التي قد تواجههما.
هذه الإعرابيّة؛ عرفت بغريزتها وفطرتها الطبيعيّة؛ بأنّ ابنتها سوف تجد هدوء النفس وطمأنينتها وسعادتها في بيتها مع زوجها؛ إذا اعترفت بحاجتها للرجل، واعترفت بقيمته ليُكِمل ما لديها من نقصٍ، وكذلك الحال مع الرجل الذي سوف يجد نصفه المفقود مع زوجته... وقد جاءت الحِكمة الإلهية؛ لا لتشطر القضية إلى نصفين متعادلين، بل جعلت في الأمر ميزانًا ربانيًا، وزّع المهام والوظائف لكلا الطرفين، وأعطى كلّ واحدٍ نصيبه بما يتناسب مع تكوينه البدني والنفسي والعاطفي. لقد وجدت تلك الإعرابية بأنّ الرجل يحتاج إلى مهارة فائقة لترويضه، وللكشف عن خزائنه، والاستفادة منها، فقالت لابنتها: (أشدُّ ما تكونين له إعظامًا؛ أشدُّ ما يكون لكِ إكرامًا)، وقد كشفت تلك الإعرابية عن سرٍ خطير، عرفته لدى الرجال، فأرادت أنْ لا تنفصِم عُرى الشراكة بين ابنتها وزوجها الجديد، فنصحتها أنْ لا تعاند زوجها وتوقّر وتحترم آراءه، وحينها ستعيش في ظلٍ وفير من الهناء والسعادة، لتجد زوجها مطواعًا لها.
وتمضي هذه الإعرابية في نصائحها وإرشاداتها القيّمة، وتقول لابنتها: (كوني له أرضًا يكنْ لكِ سماءً، وكوني له مِهادًا يكن لكِ عِمادًا)؛ وقد أجادت الوصف، وعرفت كيف يمكن لابنتها أنْ تحلّ هذا اللغز الكبير في هذه الشراكة مع زوجها؛ فطلبت منها أنْ تدنو إلى الأرض، وتستقر فيها، وحينها ستجد زوجها سماءً لها يُغطيّها ويحميها، وأنّها كلما تشبثت فوق الأرض، كلّما وجدته يخيّم فوقها بعنايته واهتمامه... وتقول لها: كوني فراشًا له؛ لينشر فوقك خيمته، ويلقي عليك بظلّه؛ حتى يحميك من الأمطار والعواصف وتقلّبات الأقدار.
(لا تُفشي له سِرًّا)؛ مقولة باهرة؛ قالتها هذه الإعرابيّة لابنتها؛ تبدو في معانيها، وكأنّها درست في أكبر المعاهد المُتخصّصة في علم السلوك والنفس، ولكنّها بفطرتها السليمة؛ عرفت بأنّ المرأة يجب أنْ تكون مستودع أسرار زوجها، وأنْ لا تكشف شيئًا مما تعرفه عنه أمام أحدٍ؛ لأنّ الشركاء يجب أنْ لا يسمحوا لأحدٍ التدّخل في شراكتهم، وأنْ يبعدوا عنهم الحاسدين والمتطفليّن... فكم من مشاكل أسريّة تفاقمت وتضخّمت بسبب تسرّب تفاصيل عن العلاقة بين الزوجين!! وكم من أسرارٍ تسرّبت خارج أبواب البيوت؛ أوقعت هذه العلاقة في مأزقٍ كبير!!
(كوني له أمَةً يكن لكِ عبدًا) ... أمّا الغرابة في الأمر؛ أنْ تدعو تلك الإعرابيّة ابنتها لتكون خاضعة وخانعة لزوجها؛ ولكنّه ذكاءُ فطريّ؛ فقد عرفت مداخل النفوس ومفاتيحها عند الرجال، وعرفت بأنّها تبغي من هذا الخضوع؛ أنْ يقابلها خضوع آخر، وأكدّت لابنتها بأنّ زوجها سوف يكون مُلكًا بين يديها؛ تحرّكه كيفما تشاء، وسوف تجده مطواعًا لها؛ يُقدم له الطاعة والولاء، طالما حرصت على خضوعها له... وقد عرفت هذه المرأة العظيمة بأنّ الرجال ينحنون إجلالًا وإكبارًا وتقديرًا للمرأة التي تخضع لهم. وتضيف الإعرابيّة قائلة: (كوني له مُوافِقة)؛ أيْ لا تسفهي له رأيًا، واحرصي أنْ توافقيه في آرائه ومقترحاته، وإياكِ أنْ تبدين رأيًّا مغايرًا لرأيه، وإياكِ أنْ تعانديه؛ لأنّ من طبيعة الرجال؛ أنْهم لا يقبلون أنْ تشاكسهم النساء في آرائهم!!... وتضيف: (وأشدَّ ما تكونين له موافقةً، يكنْ أطول ما يكون لك مرافقةً)؛ وهي معادلة عرّفتها وعرفت بأنّ طول الصُحْبَة بين ابنتها مع زوجها، سوف تمتد طويلًا؛ طالما أنّها وقفت معه تسانده وتؤيده في قيادته للأسرة، وطالما اعتبرته القبطان الخبير؛ الذي يعرف كيف يأخذ بسفينتهم إلى برّ الأمان.
(عليكِ الاحتراس على بيته وماله)؛ مقولةٌ أخرى، تكشف عن دورٍ عظيم يجب أنْ تقوم به كلّ زوجةٍ؛ تُريد الحفاظ على بيتها، بأنّها يجب أنْ تكون الحارسة والأمينة عليه؛ تصدّ وتدفع عنه الحاسدين، وتمنع عنه أصحاب النوايا السيئة، وأنّ عليها أنْ تحمي مال زوجها ولا تصرفه إلّا لحاجته وضرورته، وأنْ تحاول قدر الإمكان الادّخار والتوفير؛ لأنّ النوائب والأقدار متقلّبة، وقد تتبع أيام الرخاء والرفاهيّة وبحبوبة العيش، أيامُ شِّدَّة وضَائِقَة.
وهنا تأتينا هذه الإعرابيّة بصورة باهرة أخرى من النصائح، لتمضي بعيدًا في نفائسها؛ فتقول لابنتها: (عليكِ أنْ تؤثري رضاه على رضاكِ، وهواه على هواكِ)، وإذا بها تأخذنا إلى دار زوجها، وقد وجدت ابنتها في حالةٍ من عدم التوافق في الهوى والرغبات مع زوجها، وقد وجدت ابنتها فيه ميولًا ورغباتٍ غير التي عنده، ووجدت عنده ذوَقًا وعاداتٍ غير التي تعوّدت عليه ابنتها... وهنا؛ تنصحها أنْ تتناسى ما عندها، وأنْ توطّد نفسها حتى تتوافق مع ما عنده، وكأنّها تُحذّرها أنْ تصنع طعامًا غير الطعام الذي تشتهيه نفسه، أو أنْ تلبس غير ما ترغب به نفسه، أو أنْ تتخذّ صديقاتٍ غير اللواتي يحْذر وينفر منهن...
هي نصائح ثمينة؛ قالتها هذه المرأة العظيمة لابنتها، وتركتها للنساء من بعدها؛ لتكون مفاتيح النجاح والفلاح لصناعة بيوتٍ آمنة... وقد فازت وربحت المرأة التي عرفت كيف تصنع من هذه النفائس والذخائر قلادةً تُزيّن بها حياتها وبيتها.