عقود بيع النفط الآجلة كما يشرحها بعض الخبراء هي اتفاقات يلتزم بموجبها المشتري بشراء كمية محددة من النفط بسعر محدد وقت إنشاء العقد، ويلتزم البائع بتسليم الكمية المبيعة في تاريخ محدد في المستقبل ويتم تداول هذه العقود في الأسواق المالية (البورصات)، حيث يستخدمها المستثمرون كنوع من الضمان أمام التأثيرات العكسية لتقلبات أسعار النفط.
بيد أنها أصبحت في أغلب الأحيان تستخدم للمضاربة على النفط دون الحاجة إلى شراء أو بيع السلعة بحد ذاتها، وذلك لأن أسعار العقود الآجلة للنفط تتحرك مع ارتفاع أو انخفاض قيمة النفط، وتؤدي المضاربة بهذه العقود إلى أن تصبح هذه العقود سلعاً في حد ذاتها بحيث يمكن القول أن كثيراً منها هي عقود بيع لكميات نفط غير موجودة فعلاً وقت التعاقد، وتسمى براميل النفط محل التعاقد (بالبراميل الورقية) كما تعرف هذه العملية باسم (البيع على المكشوف).
وأدت المضاربة بهذا النوع من عقود البيع الآجلة إلى أن أصبحت من الأسباب الرئيسة لتقلبات أسعار النفط في البورصات صعوداً وهبوطاً، ففي سنة 2008 ارتفعت أسعار النفط ارتفاعات متتالية حتى وصلت إلى حدود 147 دولارًا للبرميل رغم أن المعروض من النفط كان أكثر من الطلب حتى أن المهندس علي النعيمي وزير البترول السعودي الأسبق صرَّح آنذاك بأن العالم ينتج من النفط أكثر مما يستهلك، وطالب بعض الخبراء والمسؤولين في الدول المصدرة والدول المستوردة للنفط بكبح جماح المضاربة ووضع آلية لضبط المضاربين من أجل تهدئة أسواق النفط وتحقيق استقرارها.
وخلال الشهرين الماضيين من هذا العام حدث العكس، إذ انخفضت أسعار النفط انخفاضات متتالية أدت إلى فقدانها ثلثي قيمتها، ثم شهد العالم في يوم الاثنين 20-04-2020م حدثاً فريداً لن يُنسى في تاريخ صناعة النفط، إذ هوى سعر عقد البيع الآجل للنفط الخام الأمريكي غرب تكساس، تسليم شهر مايو 2020 إلى 37.63 دولار تحت الصفر مما يعني أن المضاربين بالعقود الآجلة كانوا مستعدين للدفع للمشترين من أجل التخلص من هذا الخام بسبب امتلاء مستودعات التخزين وأنه لم يعد في وسعها استقبال المزيد.
وإذا كانت وفرة المعروض من النفط وانخفاض الطلب انخفاضاً كبيراً بسبب جائحة كورونا التي اجتاحت العالم وامتلاء مستودعات التخزين تعد أسباباً رئيسة لإنخفاض الأسعار إلا أن الحقيقة التي لاريب فيها أن العقود الآجلة بالكيفية الجاري التعامل بها في البورصات لها دور مؤثر في هبوط أسعار الخام الأمريكي إلى ما دون الصفر، وقد صرَّح بهذه الحقيقة المتحدث الرسمي باسم الكرملين، إذ قال إن انخفاض سعر الخام الأمريكي إلى ما دون الصفر مرتبط بعمليات البيع الآجلة في بورصات النفط. ويرى بعض خبراء النفط أن ما حدث بشأن سعر الخام الأمريكي لا يعدو أن يكون خسائر تجارة براميل ورقية وأنه قد لا توجد في الواقع كميات من النفط بيعت بهذا السعر.
ولذلك فإنه لابد من إعادة تنظيم هذه العقود من الناحية القانونية على النحو الذي يضبط عملياتها ويجعل آلية العرض والطلب تعمل بطريقة سليمة. وقبل بضع سنين أبدت رأياً في هذا الشأن حيث قلت أن نظرية العقود في الشريعة الإسلامية تعطينا قواعد أفضل نظام قانوني لضبط نشاط المضاربين لأنها تحتوي على قواعد وضوابط تستهدف تحقيق العدل ودرء الضرر عن المتعاقدين والمجتمع، ومن هذه القواعد قاعدة (لا تبع ما ليس عندك)، وقاعدة (عدم جواز بيع المعدوم)، ولقد جاء في البند الخامس من قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، المتخذ في الدورة السابعة المنعقدة في مكة المكرمة من يوم 1 إلى 16 ربيع الآخر سنة 1404هـ ما يلي:
(العقود الآجلة بأنواعها التي تجري على المكشوف أي على الأسهم والسلع التي ليست في ملك البائع، بالصورة التي تجري في سوق الأوراق المالية «البورصة» غير جائزة شرعاً، لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك، اعتماداً على أنه سيشتريه فيما بعد، ويسلمه في الموعد. وهذا منهي عنه شرعاً، لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تبع ما ليس عندك، وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تُباع السلغ حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم).
ثم أجرى القرار المذكور في بنده السادس مقارنة بين العقود الآجلة في (البورصة) وعقد السلم الجائز شرعاً وأوضح الفرق بينهما وذلك على النحو التالي:
ليست العقود الآجلة في سوق الأوراق المالية (البورصة) من قبيل بيع السلم الجائز شرعاً، وذلك للفرق بينهما من وجهين:
أ - في سوق الأوراق المالية (البورصة) لا يدفع الثمن في العقود الآجلة في مجلس العقد، وإنما يؤجل دفع الثمن إلى موعد التصفية، في حين أن الثمن في بيع السلم يجب أن يدفع في مجلس العقد.
ب - في سوق الأوراق المالية (البورصة) تباع السلعة المتعاقد عليها - وهي في ذمة البائع الأول، وقبل أن يحوزها المشتري الأول - بيوعات عدة، وليس الغرض من ذلك إلا قبض أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشترين غير الفعليين، مخاطرة منهم على الكسب والربح، كالمقامرة سواء بسواء، بينما لا يجوز بيع المبيع في عقد السلم قبل قبضه.
وانتهيت إلى القول إن آلية العرض والطلب لم تعد في الوقت الحاضر هي المتحكمة في إسواق النفط وأن تداول عقود النفط الآجلة على النحو الجاري في البورصات الدولية لا يعدو أن يكون عمليات مقامرة تسهم في تقلب الأسعار بشكل ضار وغير طبيعي، وأن المسؤولية تقع على الدول التي توجد في أقاليمها بورصات النفط وعليها أن تبادر إلى وضع نظام لعقود النفط الآجلة المتداولة في هذه البورصات يمنع عمليات المقامرة المحمومة ويتيح لآلية العرض والطلب أن تعمل بطريقة سليمة.
** **
- خالد أحمد عثمان