د. حسن بن فهد الهويمل
ما كان لشيء أن يشغلني كائنًا من كان - في رمضان - عن القرآن، وعلومه، فالقرآن زاد متعدد الطعوم، والفوائد. ولكن لما كانت الحياة ساعة وساعة، ولما كان مقعدي في الخيمة محاطًا بصنوف الكتب المغرية على القراءة، ولما كانت النفس الأمارة تستدرج المتكاسل والملول، فقد امتدت يدي إلى أحد الكتب الجاثمة من حولي، فإذا به المجلد الحادي والعشرون من كتاب {الأغاني} لأبي الفرج الأصفهاني، وأنا مغرم بأكذب الكتب وأمتعها، لأكذب الرواة، وأغزرهم، ولما فتحته عشوائيًا، إذا بي أفتحه على صوت غنائي من شعر {الفرزدق}. وهو مطلع غزلي في محبوبته {هنيدة} من قصيدة يهجو بها جريراً، وهي من أوائل النقائض:-
{فقلت لها: إن البكاء لراحة
به يشتفي من ظن أن لا تلاقيا}
وكلمة {فرزدق} جمْع {فرزدقة} وتعني الوجه الغليظ. أبوه {تميمي} وأمه {ضبيّة} وجده صعصعة {محيي الموءودات} افتخر به كثيرًا:-
{متى تُخلِف الجوزاءُ والدّلو يُمْطر}
وفد أبوه على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسلم.
سكن هو، وجرير {البصرة} زمن نضجها، في عصر بني أمية، يعد من شعراء {مضر } المعمرين، كان ذكيًا حافظًا، قيد نفسه حتى حفظ القرآن. شاعر فحل وناقد فذ، وهو من جعل للشعر سجدة.
زوّج نفسه من ابنة عمه {نواراً} خِدْعة. ولمّا غلبها هربت لـ {الزبير} في مكة، ولحق بها، كل يطلب الشفاعة. فشفع لها، وله قصيدة مغناة:-
{ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزراً
مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا}
ولكنها في النهاية أذعنت له، وأنجبت منه، ولها حكايات خيالية، أثْرت الأدب، ولمّا كانت صالحة لا ترضى فجوره، خالعته، ثم ندم، وقال:-
{ندمت ندامة الكسعي لما
بدت مني مطلقة نوار}
يعده {ابن سلام} من أصحاب الأبيات {المُغْنِية } وساق طرفًا منها كقوله:-
{أحلامنا تزن الجبال رزانة
وتخالنا جناً إذا ما نجهل}
ووصف شعره - أيضًا - بـ{مداخلة الكلام} وساق شواهد معضلة، عالجها النحاة.
وللإسلام، والقرآن أثربين في شعره، وله نزوع علوي، يتجلى في:- {هذا الذي تعرف البطحاء وطأته}. ومن ثم أولاه {الأصفهاني} عناية خاصة، لتوافقهما في {العلوية} وإن كانا أمويين. يُصدّق الأصفهاني بما نقل عن {ابن سلام} وهو كثير.
له توبة لطيفة، قالها بعدما شاخ. سجنه والي {المدينة} على قصيدته العلوية، فافتخر بسجنه في {المدينة} وهجا واليها :-
{يقلّب رأساً لم يكن رأس سيد
وعينا له حولاء باد عيوبها}
و{الفرزدق} مزواج مطلاق، ليست فيه عفة جرير، ولا رقة شعره التي تصلح لفسوقه، وكل زيجاته موثقة في شعره، وفي شعره إسفاف أخلاقي، لا يُحتمل، قيل عن شعره:-
{أدرك من قبله، وسبق من بعده}، كان مهيبًا يسطو على عيون الشعر، ويقول:- نعم سرقة لا يجب فيها قطع. أدق وصف لشعره،
وشعر جرير قولهم:- {جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر}. جُمعت النقائض، في وقت مبكر، وشُرِحَت، وأوسع شروحها: {شرح نقائض جرير والفرزدق} في ثلاثة مجلدات تحقيق {محمد حور، ووليد خالص} على رواية اليزيدي، عن السكري، عن ابن حبيب، عن أبي عبيدة. وهي مصدر لغوي ثر. وله ديوان مطبوع في مجلدين، قال ابن حبيب:- {لولا الفرزدق لضاع ثلث اللغة}.
تلك مقتطفات من موسوعة الأغاني، تدل على نظرات نقدية ثاقبة، مع شيء من المحفوظ ومن بعد {ابن سلاّم} و{الأصفهاني} أوسعه الموسوعيون، والدارسون القدامى والمعاصرون دراسات موسعة، من أهمها دراسة {شاكر الفحام}.
وفي رحاب شعره تجلت {نظرية النقائض} في الشعر العربي.
والنقائض هجاء للتندر، والتفكه بثلاثة ضوابط.
مجرد إثارة عجلى، لاستعادة عملاق من عمالقة الشعر العربي الإسلامي..!