في الليالي القروية الهادئة، التي لا تزيدها أصوات الحشرات الليلية إلا هدوءًا وانسجاماً مع الظلام الممتد، كان الفتى يستطيع أن يقبس من جذوة تلك الليالي الحالكة ضوءًا خافتاً، يزداد توهّجًا في نفسه كلما تقدم به العمر.. كان رغم خوفه من الظلام، وارتياع قلبه من الانغماس فيه، يحُسُّ بجمال الليل وسحره وشاعريته، كان الأمر عفوياً لا يتطلب تكلفاً لإدراك تلك المعاني..
وليس من قبيل المبالغة الأدبية أن نصف طفلَ القرية بأنه شاعرٌ بفطرته.. فإذا تهيأ له من الاستعداد النفسي والاهتمام، واحتشاد العزم والقراءة والتأمل ما يسمو به - حاز ملكةَ الشعر.. وكيف لا يكون كذلك وليالي القرى تمتزج بالشعر والخيال وحكايا الأمهات الرائعة دائماً، والمروّعة في كثير من الأحيان! وكيف لا يكون كذلك ولديه من الوقت الممتد والفراغ الطويل - من دون أن ينكبّ على جهاز يسرق طفولته- ما يمكّنه من الاستلقاء على سطح المنزل، في إحدى الليالي، تحت السماء، وهو يتأمل تلك اللوحة الدُّرية الأخاذة، ويحاول عبثًا عدَّ نجومها بلا جدوى، حتى يتسرّب النعاسُ إلى أجفانه ويقتحم عينيه، فينغمس في نومةٍ أثيرة، لا يوقظه منها إلا رذاذُ سحابةٍ باردة، يتقاطر على قسمات وجهه، فتخلُدُ في ذاكرته تلك الذكرى التي سنح بها الزمان..
إنه الآن في منتصف عقده الرابع يضطرم بتلك الذكريات، وتتقافز بين يديه شررًا، بالكاد يستطيع أن يطوّعه كتابةً، أو يصوغه حديثا..
وما أعظم سروره حين كان يذهب لبيت عمه المجاور، فيرقى إلى سطحه - وللسطوح في القرى حكايات- ويسرح ذهنُهُ بأثير «الراديو» ، الذي يترك مساحةً حُرّةً لجِماح التخيل.. وهذا الجهاز تحديدًا، كان له فضلٌ فيما اكتنزت به ذاكرةُ ذلك الجيل -وما قبله من باب أولى- من ينابيع الخيال والأحلام.. فهو الآن لا يعدل لياليه الحاضرة بليلةٍ من ذلك الزمان..
هل السر في هذا الحنين العاصف لذلك الزمان هو أننا تذوقناه حينها بلسان الطفولة؟! ربما.. لكني أجزم أن مع ذلك التذوّق الطفولي قدرًا كبيرًا من صفاء ذلك الزمان وروعته.
وإذ يمرّ ببعض المواقف القاسية التي تتخذ -رغمًا عنه- مكانها في ذاكرته؛ فإنه يُحب أن يَعبُرَها سريعًا إلى مواقف تنبض حُباً، وتفيض رحمةً وإحسانًا..
هو شغوفٌ الآن بتذكر تلك الأيادي البيضاء التي كانت تمتد إليه لتمسح على رأسه، مُثنيةً مشجّعة، وإن نسي منها ما نسي -قسرا بحجُب السنين- فلا ينسى ذلك الشيخَ الوقور، بلحيته المخضبة بالحنّاء والنُّبل، وهو إمام مسجد قريته، حين مسح على رأسه وهمس في أُذنه الصغيرة -بعد خروجه من المسجد- بكلمات مشجعةٍ شعر بها أن عُنقه أطول مما هي عليه في الحقيقة!
ومضى به العمر وهو يتذكر تلك الكلمات مرةً بعد مرة، ويترحم على قائلها..
وهو الآن يحاول أن يتمثّل ذلك الخُلُقَ الرفيع في أطفاله أو من يقابلهم من أطفال، كلما رأى منهم ما يسرّ، ويحاول أن يكون امتدادًا لذلك الغرس الكريم.. وتُلحّ عليه تلك المواقف حتى تُشجيه، فيتنفس تلك الذكريات شعرًا، كما ينفثها نثرًا ، فيقول:
مَن يُبلغُ الصحبَ أني بعد فُرقتِهم
كطائرٍ، والسما برقٌ وأمطارُ
يمضي وحيدًا، فلا الأشباحُ تصحبُهُ
في نأيِهِ، والمدى: طولٌ وإقفارُ!
أيا سقى الله رحبًا كان يجمعُهمْ
وأوردَ الماءَ رملًا فوقهُ ساروا !
بالأمس، كم خطوةٍ في الأرض قد غرسوا
لتَنبُتَ اليوم للتذكارِ أزهارُ؟!
** **
- منصور بن إبراهيم الحذيفي
man.sur.2519@gmail.com