عندما ترمي حجراً ينطلق في الهواء ويرسم قوساً ليسقط على الأرض. وكلما كانت الرمية أقوى كان القوس أوسع. وإذا كانت «الانطلاقة الأولى» للحجر بقوّة صاروخية تتعدى حدود الكرة الأرضية؛ فسيسقط ذلك الحجر؛ ولكن لا يجد ما يرتطم به؛ أي يبقى يدور حول الأرض كـ«القمر الصناعي».
الحياة كلها؛ وخاصة الكتابة؛ شبيهة بمشهد الحجر الذي بات حجراً؛ وأصبح قمراً! فإذا تأملنا الكاتب الروسي «دوستوييفسكي» (1881-1821) كإنسان اكتسب شهرة عالمية، فقد عاش فقراً مدقعاً في طفولته؛ وترك المدرسة بعمر 15 عاماً بعد وفاة والدته؛ والتحق بمعهد الهندسة العسكرية كي يعيش! ... وبعد تخرجه عمل مهندساً بدخل مناسب. وكان يكسب دخلاً إضافياً من ترجمة الكتب. وبالرغم من ذلك كان باذخاً لا يأبه للنقود. وكأن النقود أوساخ تلوث روحه الحرّة.
كتب روايته الأولى «المساكين» في عام 1846 في مدينة «سانكت بطرسبورغ»، والتي أدخلته في الأوساط الأدبية في روسيا. وقد ألقي القبض عليه عام 1849 لانتمائه لرابطة «بيتراشيفسكي».. وهي مجموعة أدبية كانت «تناقش» الكتب الممنوعة التي تنتقد القيصرية. وحكم عليه هو ورفاقه بالإعدام، ولكن تم تخفيف الحكم في اللحظات الأخيرة قبل تنفيذه. قضى أربع سنوات في الأعمال الشاقة؛ تلاها 6 سنوات من الخدمة القسرية في المنفى!
كل كتاباته تقول: إن «الفقر» ليس عيباً؛ بل إن الفقراء هم المنتجون؛ ولولاهم لما كان هناك أغنياء؛ وأن الظلم ليس مقدساً! وأصبحت أشهر رواياته؛ كـ «الإخوة كرومازوف؛ والجريمة والعقاب؛ والأبله؛ والشياطين» مادّة للسينما عند كل شعوب العالم! وأصبح دوستوييفسكي «كوكباً» يدور في وعي الشعوب كلها لأنه أنكر ذاته؛ ولم يرتطم بـ «رشوة أو نرجسية أو نفاق»! وبقي مخلصاً ومتفانياً لـ «انطلاقته القوية الأولى»!
اتخذ بعض الكتاب؛ وما أكثرهم؛ العبث وسيلةً للتشبه بدوستوييفسكي. ولكنهم نسوا أو تناسوا، أن «عبث» دوستوييفسكي بالنقود كان متناغماً مع موقفه ضد الظلم، فهو لم يسمح؛ لا للأغنياء؛ ولا للنقود بحرفه عن انطلاقته الأولى أو استعباده! ولا أدري ماذا أسمي «عبث» دوستوييفسكي؟ وهل هو «العبث» الذي يقصده متعمداً بعض الكتاب بمعنى «اللاموقف»؟ أي أن تغمض عينيك عن الصراع الاجتماعي المحتدم؟ ... أما «الموقف» المناصر للأغنياء أو المجرمين أو الخونة فهو ليس عبثاً! ولا يعطيك الحق بالتشبه بالعظماء مثل دوستوييفسكي!
** **
- د. عادل العلي