لم يكن دخول المسجد متاحًا للصبيان؛ فظل الصبي الصغير الذي تعلق بالمسجد تقليدًا لوالده يقف خارجه. لم يشفع له أدبه وهدوؤه حتى بلغ السابعة، حينها سُمح له على ألا يصاف الكبار؛ فصار يقف في طرف الصف الثاني، وإن لم يكن في الصف الأول إلا بضعة عشر رجلاً.
وما هي إلا فترة وجيزة، ترقى فيها الفتى زلفة زلفة، حتى صار يقف خلف الإمام، في مكان لا يغيره أبدًا، وكأنه يتحدَّى المنع الذي مورس عليه من قبل.
جماعة المسجد لا يزيدون ولا ينقصون، يعرفهم واحدًا واحدًا، وقد اتخذ كل منهم مكانًا، لا يكاد يغيره.
وفي آخر عام 1406هـ في يوم من أيام الإجازة الصيفية رأى في صلاة الظهر رجلاً غريبًا، يصلي لأول مرة، إنه جار جديد نزل الحي حديثًا، كان طويل القامة، كبير السن، يتكئ على عصا، فصلى عن يسار الفتى، خلف الإمام، فلما سلم من الراتبة سلم عليه الفتى مصافحًا، محاكيًا سنن كبار السن، فالتفت الشيخ إلى من عن يمينه، وهو إبراهيم بن محمد القرعاوي - رحمه الله -، فسأله عن هذا الصغير، فقال: هذا ابن فلان بن فلان.
من ذلك اليوم انعقد بين الفتى والشيخ عقد المودة، يتجدد قبل كل فريضة، لما يصافحه مع سلام حارّ، وابتسامة رضا، وكلمة دعاء تنفح الفتى بنفحة من التشجيع والتعزيز، وصار الفتى ينظر إلى هذا الشيخ غير نظرته إلى غيره من جماعة المسجد؛ فثم ما ميزه مما لم يدركه الفتى وقتذاك، غير سيما الوقار، والهيبة التي تجلله دون البقية.
عني الفتى بأمر الشيخ؛ فصار يسأل والده عن كل شيء يتوقع أن يجيبه عنه، ومن ذلك أنه رأى الشيخ لا يصلي الراتبة في المسجد، مثل غيره من الجماعة، فسأل والده، فأخبره بأن الأفضل أن تصلى في البيت.
لم يكن الشيخ يلبس ساعة في يده كما البقية، وإنما يحمل ساعة في جيبه، فهو يخرجها بين الأذان والإقامة، بسلسلتها الفضية اللامعة، ثم يفتح غطاءها، وينظر فيها، ويعيد أقفالها، ويدير (زنجيلها) لثوانٍ معدودة، ثم يعيدها إلى جيبه، كانت الساعة وصاحبها حدثًا مثيرًا في المسجد، قتل الرتابة التي اعتادها، والوجوه التي ألفها.
يبدو أن الفتى قد أعجبته تلك الساعة، وتلك المعالجة التي تحف كل نظرة فيها، وما يلتحق بها من أدوات، تغري بالنظر فيها وتفحصها.. فصار وقت إخراج الشيخ ساعته موعدًا لا يخلفه الفتى، ولا يتحرج من مسارقة النظرات المتتاليات.
لم يكن خافيًا على الشيخ إعجاب الفتى بالساعة، فبعد أن سلم عليه ذات ظهيرة أخرجها بعدتها ووضعها بيد الفتى، بعبارة لطيفة، ابتدأها باسم فعل الأمر (هاكَ)، فدخلت الساعة في ملكه، ودخل اسم الفعل في معجمه، وتمكنت مودة الشيخ في قلبه.
لم يمتع الفتى بالشيخ كثيرًا؛ فقد مرض وسافر إلى الرياض للعلاج، وتوفي بعد سفره ببضعة أشهر..
كانت ذكراه تعاود الفتى من حين لحين، فيترحم عليه ويدعو له.. وظلت الساعة ساعته إلى اليوم، لم يرض بها بديلاً، وإن اختلفت عينًا، فقد بقيت نوعًا.
وفي ذات مساء، عام 1411هـ، وقد كُلف بتقديم كلمة في الإذاعة الصباحية في مدرسته المتوسطة، جعل الفتى يقلب في مكتبة والده، فوقع على مجموع مطبوع، فيه كتاب المختارات الجلية، ومنهج السالكين، ورسالة لطيفة في أصول الفقه المهمة، كلها للشيخ عبد الرحمن السعدي، وقد ألحق بهذه الكتب ترجمة للشيخ بخط تلميذه سليمان بن عبد الكريم السناني. لقد أقبل الفتى على هذه الترجمة بقلبه وعقله، واسترجع ما لم ينسه عن صاحبه، واقتطف منها مقالاً لإذاعته؛ ليكون امتدادًا لأثره، وإبلاغًا لعلمه.
فضيلة الشيخ سليمان بن عبد الكريم بن محمد السناني (1320 - 1409هـ) - رحمه الله تعالى - لم يكن ظن الفتى خائبًا لما أدرك أنه ليس كغيره من جماعة المسجد، إنه أحد تلاميذ الشيخ عبد الرحمن السعدي، نشأ في بيت علم، وتبع سنن جده وأعمامه في سلوك طريقه؛ فقد كانوا من العلماء المعدودين، فتتلمذ في بلده على مشايخه (صالح القاضي، وعبد الرحمن السعدي، وسليمان الشبل)، ثم سافر إلى الشام مع العقيلات طلبًا للرزق، إلا أن حب العلم قاده إلى ملازمة العلماء هناك، ومن أبرزهم الشيخ الحنبلي عبد القادر بن بدران؛ فقد أطال ملازمته، واستفاد منه، وحاز تزكيته.
عاد إلى عنيزة ليعمل في مهمات متعددة، في الدوائر الشرعية، من كاتب ضبط إلى رئيس كتابة العدل، كما عمل في المدينة المنورة مع رئيس المحكمة الشيخ عبد الله بن زاحم، ثم عُيّن قاضيًا في (الجموم) و(ميسان) و(الدليمية) حتى تقاعد. رحمه الله وغفر له.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم