دخلت دول ومجتمعات ما يُسمى بالعالم الثالث مسار الحضارة المعاصرة منذ بدايات القرن العشرين، في أحسن تقدير. وقد تبلورت هوياتها الوطنية وإطاراتها الجغرافية، في معظمها، مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. وأصبح العالم يتشكل من مجموعتين مختلفتين تمام الاختلاف، إحداهما تعيش وتصنع الحضارة بمقوّمات ناجزة على مختلف السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتملك بالتالي فوائض تفوّق وسيطرة وتأثير، وآليات نمو وتجدد مطّردة. بينما تعيش المجموعة الأخرى حالات متفاوتة من الدهشة والشك، والانكفاء والتبعية، والارتباك الدائم. وما بين هاتين المجموعتين تبرز بعض الحالات المتفردة، التي انعتقت من المجموعة المرتبكة ولم تندرج بعد في مجموعة التفوق والسيطرة والتأثير.
وعلى مدى العقود الماضية سال كثيرٌ من حبر أدبيات التنمية والتجديد والمواكبة الحضارية والطروحات الفكرية والثقافية في العالم الثالث، مثلما سالت الكثير من الدماء في التجارب النهضوية الصاخبة والمندفعة، والتي إن لم تؤد إلى التراجع والفشل، فإنها لم تحقق في الغالب تقدماً يُذكر.
لقد ظل سؤال النهضة والتغيير مشدوداً بين الخارج الجغرافي والخارج التاريخي، بين المستقبل المتجسد في حاضر مجموعة التفوق والماضي الذي لا يزال ممسكاً بخاصرة حاضر المجموعة المرتبكة.
ليس هذا التشخيص جديداً ولا طرياً، فقد تم اجتراره وبحثه في كتاباتٍ وسجالاتٍ لا حصر لها، تراوحت بين هجاء الماضي ونعي الحاضر وتزويق المستقبل المتخيّل ببهارج مستوحاة من الخارج. وبدلاً من الانطلاق من الواقع، حاجاته وبُنياته ومُمكناته، بتضافر جميع سياقاته الاجتماعية والثقافية والسياسية، فقد جاءت معظم محاولات الانعتاق من التخلف، عبارة عن قفزات في الفراغ، لم تقبس أفضل ما في الماضي من إشراقات، ولم تستشرف بجدارة وعود المستقبل، في حين طحنت سنابك فظاظتها مقومات الواقع المتطلّعة.
عاشت الثقافة الجادة دوماً في سياقٍ منعزل إلى حدٍ كبير عن السياق الاجتماعي الكبير والمهلهل، وكان هنالك دوماً لاعبون انتهازيون يأخذون السياق السياسي في مغامرات مبتوتة الصلة بالسياقين الآخرَين، أو في أحسن الأحوال، أو أسوئها، بمسوّغات ثقافية مزيّفة، واستثارات اجتماعية واقتصادية هجينة.
عاشت معظم دول ومجتمعات العالم الثالث، هذا التنافر والانفصام بين الرأس الثقافي والجسد الاجتماعي، فجاءت الحركة السياسية، لهذا التكوين المتنافر، مهزوزةً مرتبكة، لا تعكس حقيقة التكوين ولا تصل إلى غايةٍ محددة. وهذا ما يفسر فشل أو انتكاس، وأحياناً انهيار، عدد غير قليل من الدول والأنظمة العالم ثالثية في العقود الأخيرة. وهكذا تبدو أمامنا أنماط متنوعة لدول، يتمظهر بعضها بديمقراطية مديدة مفرغة، وليبرالية شكلية، في حين تُدار البلاد بعراكات طائفية عاتية، وتتحكم باقتصادها شبكات فساد متجذرة، في ظل استغفال، أو تجاهل، السياق الاجتماعي برمته، وتهميش السياق الثقافي. ويتوسل نمط آخر من هذه الدول أسمال الماضي واستجلاب جحافل الخرافة، وتتحول الأضرحة، ومسوقو الخرافة إلى مراكز لتجفيف جيوب الفقراء ومتوسطي الحال، ويصبح المستقبل وعداً غيبياً أُخروياً غائماً. ونمط ثالث تحكمه ديكتاتوريات أقلياتية أو عسكرية تقوم أساساً على القطيعة التامة مع مختلف سياقات الحاضر وتتوجس من المستقبل. ناهيك عن سلسلة الانقلابات العبثية المتوالدة منذ الأربعينات.
يعزو البعض هذه الإخفاقات إلى مؤامرات الخارج وكيد الأعداء، ويرى آخرون أن كمية الماضي في الحاضر طاغية ومثبطة عن النهوض. والواقع أن هذا التنافر والانفصام المزمن بين السياقات المختلفة يقف سبباً أساسياً وراء الفشل المتطاول عن النهوض والتقدم والمنافسة الخلاقة مع فرسان الحضارة المعاصرة.
إن جميع الأمم الناهضة والدورات الحضارية المتتابعة، كانت نتيجةً لشغفٍ جمعي، وجهودٍ جماعية، وتكامل فعال ومتناغم بين مختلف السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولم يتحقق لها الظهور والبقاء عبر مجرد مغامرات نخبوية تتجاوز السياقات الأخرى.
وفي المنطقة العربية، لا تزال أنهار الحبر تفيض تنظيراً ونعياً وهجاءً، ولا تزال دورات المغامرات تتوالى، ولا يزال ضوء الانعتاق إلى المستقبل المرتجى لا يكاد يبين في آخر نفق التاريخ المتكاثف الظلمة.
** **
- عبدالرحمن الصالح