وهذه الأحداث أثرت على جابرييل في كِبَره، فيحدث له أحيانًا عندما يستيقظ ليلاً في فندق في روما أو بانكوك أن يداهمه من جديد رعب طفولته القديم بأشباح أقارب أموات يعيشون في الظلام(8)
هذه الحكايات والأساطير صنعت منه روائيًّا ساحرًا واستثنائيًّا.
قراءات وثقافة ماركيز
كانت القراءة عزاءه الوحيد. وجد في الكتب المخرج الوحيد، وفي قاعة النوم الضخمة في المدرسة الداخلية كانت الكتب تقرأ بصوت عال روايات «الجبل السحري»، «العساكر الثلاثة»، «أحدب نوتردام»، «كونت مونت كريستو».
وفي عطلة الأسبوع ليوم الأحد كان ماركيز يمكث في مكتبة المدرسة، ويقرأ روايات جول فيرن وسلغاري، والشعراء الإسبان والكولومبيين، الذين كانت أشعارهم ترد في الكتب المدرسية. كما اكتشف في هذه المرحلة شعراء كولومبيا الشباب الذين كانوا متأثرين بروبين داريو وخوان رامون خيمينز وبابلوا نيرودا بشكل مباشر أكثر من غيره، الذين شكلوا مجموعة باسم «الحجر والسماء» نسبة إلى المجموعة الشعرية المشهورة التي كانت قد صدرت عام 1919 للشاعر خوان خيمينز. وهذه الجمعية وضعت نهاية للرومانتكيين والشكليين والكلاسيكيين الجدد، وقد أبدعوا استعارات باهرة. يقول ماركيز عن الجمعية:
«وأنا لست متأكدًا مما إذا كنت سأصبح كاتبًا لو لم توجد جمعية الحجر والسماء»(9)
وقرأ كثيرًا من الأشعار الرديئة والجيدة، واستمر في قراءة الأشعار، ثم راح يقرأ في الرواية لكافكا وتولستوى ودستوفسكي وديكنز وفولبير وستندال وبلزاك وزولا، إلى جانب بروست وجويس وفرجينيا وولف ووفوكنر، ومن اليونان سوفوكليس وهوميروس في الإلياذة والأوديسة، وغيرهم.
المؤثرات الثقافية في أدب ماركيز
تميَّز ماركيز بالصراحة والشفافية من خلال حواراته ومذكراته؛ فيعترف بأنه تأثر بكتب وكتّاب كثيرين، شكلوا ثقافته وأسلوبه، وفي مقدمتها كتاب ألف ليلة وليلة التي أشار في مذكراته التي نشرها بعنوان (نعيشها لنروي) إلى أنه «لولا عثوره مصادفة في مكتبة جده على كتاب مهمل، أوراقه صفراء، يكاد يتمزق من فرط قدمه بعنوان (ألف ليلة وليلة) ما كان ليصبح أديبًا». وقال إن هذا الكتاب «هو ما صنع مني أديبًا بعد أن سحرتني الحكايات داخله، وأكثر ما شغفت به هو دور الراوي»(10)
كما تأثر بالروائي كافكا. حكى ماركيز عن «الليلة التّي جاء فيها زميله في السكن بثلاثة كتب، كان قد اشتراها للتوّ: وقد أعارني أحد هذه الكتب عشوائيًّا لمساعدتي على النّوم كما أفعل بالعادة، ولكن حدث العكس هذه المرة. لم أنم بعدها مطلقاً بسكينتي السابقة. لقد كان كتاب «المسخ» لفرانتس كافكا بمنزلة اتجاه جديدٍ لحياتي من سطره الأول القائل «استيقظ جريجور سامسا من أحلامه المزعجة صباح يوم ما ليجد نفسه في سريره متحولاً إلى حشرة عملاقة»؛ إذ يعد هذا السّطر اليوم من أهم ما ورد في الأدب العالمي»(11)
كما اعترف بأنه تأثر بوليم فوكنر. وحكى في أحد حواراته يقول: «اذا كانت رواياتي جيدة فذلك لسبب واحد، هو أنني حاولت أن أتجاوز فوكنر في كتابة المستحيل، وتقديم عوالم وانفعالات. يستحيل أن تقدم الكتابة والكلمات مثل فوكنر، ولكن لم أستطع أن أتجاوز فوكنر أبداً. إنني اقتربت منه».(12)
كما تأثر بالكاتب الكوبي اليجو كاربنتاير مؤسس الواقعية السحرية الذي يخلط بين الوقائع التاريخية والقصص الخيالية.
أهم مؤلفاته الروائية والقصصية والمسرحيات والمقالات في مجال الرواية، رواية الأوراق الذابلة 1955، ليس للكولونيل من يكاتبه 1961، في ساعة نحس 1962، جنازة الأم الكبيرة 1962، مئة عام من العزلة 1975، وقائع موت معلن 1981، الحب في زمن الكوليرا 1985، الجنرال في متاهته 1989، عن الحب وشياطين أخرى 1994.. وغيرها (13)
إضافة إلى أكثر من 30 قصة قصيرة، وأعمال مسرحية، ومقالات، وتحقيقات صحفية، وكتابة سيناريوهات لأفلام سينمائية، ومقدمات كتب، وورش سينمائية.
أسلوب وتقنيات السرد عند ماركيز
تميَّز ماركيز عن غيره بأنه روائي تحويلي، استفاد من هذه الأساليب والتقنيات، وانعكست على أعماله القصصية والروائية، وخصوصًا رواية (مئة عام من العزلة) التي تأثرت بأسلوب التداعي الحر والواقعية السحرية، وانعكس تأثيرها على كتب وروائيين في القارات كافة. وأصبحت هذه الرواية قيمة مضافة للرواية العالمية الحديثة، جمعت بين أساليب متعددة ما بين التداعي الحر والواقعية السحرية والأسطورة المحدثة.
وفي الحلقة القادمة سوف نتحدث عن سحر الواقع ودهشته في رواية مئة عام من العزلة.
** **
- ناصر محمد العديلي