د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
أخطأ «سومرست موم 1874-1965 م «نحويًا في جملة طلبت فعل كينونة «be» فاستخدم «was» وكتب في رواية له على لسان سيدة: «أنا لم أعدْ صغيرةً كما اعتدتُ أن كنت» وحقُّها: كما اعتدتُ أن أكون»، وعلّق صاحب كتاب «عنف اللغة 2005م»: «لو أنني قرأت هذه الجملة في ورقة امتحان طالبٍ لرسمتُ خطًا أحمر تحتها»، لكنه -جان جاك لوسركل أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة باريس- استمتع بقراءة هذه الجملة لصدورها من امرأةٍ لا تعنيها قيود اللغة، وليست ببيان شابٍ متخرجٍ في أكسفورد كما أردف، وبدا أن حساسية اللغة تعلو وتهبط وفق حاكيها أو حائكِها، فما يُقبل من بائع الخضار في تسويق بضاعته لا يقبل من كاتبٍ أو أكاديميٍ أو إعلاميٍّ، ولا يفترضُ فيهما تبادل الأدوار، إذ لو تفاصح البائع لتندِّر عليه، ولو هذر المثقف بعاميةٍ موغلة لانتقِد، أو كذا كنا نظن.
لم يعد لهذا التمييز معنىً؛ فاللحنُ أيسرُ العيوب لسببٍ جليّ، وهو أن من يتأذَّون من الخطأ النحوي والإملائيّ في حكم «المنقرضين»، وهو ما أفقد اللغةّ بعض سطوتها وجعل المعنيين يتساءلون عن وظيفة اللغة؛ أتقتصر على الدلالات الإشارية المجردة التي يتحقق بها التواصل أم أن لسلامة التركيب وأسلوبه وجماله دورًا غائبًا أو مغيبًا فبدا للجيل الناشئ غيرَ ذي بال؟
لم يتأثر الجانب الشكلي وحده بتهاوي سلطة اللغة، فالكلمات نفسها لا تستمدّ قوتَها من حروفها بل من ظرفها ومتكلمها، أي أنها معاقة ومعِيقة ومستبدةٌ وبليدة وهامشيةٌ وضعيفةٌ تستحيل قويةً مركزيةً مضيئة مضيفة وفق قدرة القائل وقيمة المقُول، والأقرب أن الوسائطَ الرقمية هوّنتْ كثيرًا من شأن اللغة حتى لا نكاد نرى أفقا لإخراجها من تعقيد التنظير وابتذال التطبيق.
وثمة جانب أخلاقيٌّ للّغة التي تردت في درْكٍ دون قرار؛ فلم يعد مستنكرًا أن تحتشد مفرداتٌ سوقيةٌ ضمن سياقاتٍ مجتمعيةٍ فاعتادت الأعين على قذى الكلمات وأذاها، ومرّ زمن كان في التورية البلاغية والإضمار النحوي والإيماء الأسلوبيّ شيء من النأيِ القصديّ عن مجاراة سيّء القول، ومع تساقط الأقنعة لم يعد الحاجز اللغوي ساترا.
اللغة نحن،أو: نحن اللغة، ومستسهلو قواعدِها الشكلية وإلزاماتها المعنوية غائبون عن معرفة أنفسهم وعاجزون عن تحدي إملاقهم، وقد قرن الأستاذ أحمد عبدالمعطي حجازي بين تزامن «تراجع الشعر وتدهور الكتابة» مع العناية بالنحو واللغة «وظهور» ابن منظور وابن هشام»، وقد جرى سجال طويل بينه وبين الدكتور محمود الطناحي على صفحات «الأهرام والهلال»، ولا جديد، فالنحو مدار التجاذب، واللغة مسار الجدل، ففينا من يعييه إعراب وبناء، وفينا من يعوزه نقاء وارتقاء، والكلمات هي الفصل والفاصلة.
كلامك مقامك.