د. محمد بن يحيى الفال
يُقاس تقدُّم الأمم بما تقدمه من إسهامات علمية كنتيجة لنهضتها التعليمية والمعرفية، وبمقدار اهتمامها بتشجيع العلم والبحث العلمي الذي يعد الركيزة الأساسية لمجمل العملية التعليمية وأحد أهم المؤشرات لمعرفة تقدُّم الأمم. عصرنا الذي نعيش فيه يقدِّم لنا شواهد وأمثلة لدول عديدة، اعتمدت على البحث العلمي في نهضتها وتطورها ومقدرتها التنافسية في مسيرة الاقتصاد والتجارة الدولية. دول مثل اليابان وسنغافورة في الشرق، وفي الغرب غالبية دول أوروبا الشرقية بلا مصادر طبيعية، أو بمقدار ضئيل منها، ومع ذلك تمكنت من خلال رأس مالها البشري من أن تكون رقمًا صعبًا في المعادلة الدولية. ومع قول ذلك فإن تطور هذه الدول لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل من خلال خطط واستراتيجيات بعيدة المدى، وُضعت لجعل كل مكونات العملية التعليمية تتوافق مع متطلبات سوق العمل لهذه الدول، سواء كان ذلك يتعلق بسوقها الداخلي، أو بمقدرتها على المشاركة والمنافسة في سوق التجارة الدولية.
لم يكن الاهتمام بتطوير المنظومة التعليمية والبحثية في المملكة غائبًا عن رؤية المملكة 2030، بل هو في الحقيقة يعتبر المرتكز المحوري لها، وواضعة في عين الاعتبار أهمية القفز بكل ما يتعلق بالمنظومة التعليمية والبحثية نحو أفق أرحب، يضع المملكة في المكان الصحيح الذي يجب أن تتبوؤه في عالم اليوم وعالم المستقبل، وهي الدولة التي اهتمت بالعلم منذ سنوات توحيدها الأولى، وقدمت معجزة حقيقية لتحقيق ذلك، وفي فترة وجيزة، تقدر بعقود عدة، دفعت فيها الدولة للمنظومة التعليمية والبحثية ما مجموعه ليس بالمليارات من الريالات، بل ربما تعدى ذلك للتريليونات من الريالات، ومن خلال الخطط الخمسية لتنمية البلاد التي بدأت في عام 1390هـ.
حصيلة هذا الاهتمام بالعلم والتجربة السعودية في دعمه، التي لا يمكن أن نجد لها مثيلاً في عالمنا، قفزت بعدد مدارس التعليم العام من حصيلة لا تتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة إلى أكثر من 36 ألف مدرسة حاليًا، و30 جامعة حكومية، وأخرى أهلية يبلغ عددها 12 جامعة، والعديد من الكليات والمعاهد العسكرية.
بعد أن اهتمت الخطط الخمسية بالتعليم من منظور كمي، وهو أمر كان ضروريًّا لبناء البنية التحتية للمنظومة التعليمية التي كانت شبه منعدمة، جاءت رؤية 2030 لنقله نحو أفق آخر، يكون التركيز فيه على نوعية التعليم انطلاقًا من أهمية ذلك للمملكة؛ لتستطيع أن تكون ذات مقدرة تنافسية حقيقية، تتوافق مع دورها الدولي للمشاركة في إدارة دفة عجلة الاقتصاد الدولي؛ لكونها عضوًا في مجموعة العشرين، أكبر تجمع دولي لأهم الاقتصادات الفاعلة في عالمنا.
جاءت رؤية المملكة 2030 لتضع المنظومة التعليمية في محور الرؤية؛ لكونها المحرك الأساسي والرأسمال البشري لها، الذي أفردت له دورًا كبيرًا لتحقيق محاورها الثلاثة الرئيسة والمتمثلة بمجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح.
واشتملت الرؤية على 13 برنامجًا لتحقيق محاورها الثلاثة. ومن أهم هذه البرامج ذات العلاقة المباشرة بالمنظومة التعليمية نجد برنامج تنمية القدرات البشرية الذي وضع هدفين أساسيَّين لتطوير منظومة التعليم والتدريب للوصول للمستوي العالمي، وذلك من خلال أولاً تلبية احتياجات التنمية، وثانيًا تلبية احتياجات سوق العمل المحلي والعالمي. استراتيجية تنمية القدرات البشرية اشتملت على 19 مبادرة، تتضمن 90 مشروعًا موزعة لتطوير مراحل التعليم كافة، وشددت في إحدى مبادراتها على حتمية الاهتمام بالجامعات التطبيقية التي تكون قادرة على تجهيز طلابها لمهن المستقبل، مهن ضرورية، تعد ركائز لأي عملية تنموية ناجحة، مثل الطب، الهندسة، البرمجة، التقنية الحيوية وعلوم الروبوتات.
ومن المتعارف عليه أن البحث العلمي هو جوهر العملية التعليمية، وبه تفخر الجامعات، وهو ما يوضع على قائمة المطالب المتعلقة بتصنيفها على المستوى العالمي. ومما يثلج الصدر أن رؤية المملكة 2030 تنطلق في تحقيق أهدافها المتعلقة بتطوير منظومة التعليم والتدريب، وهي تتوافر على أهم متطلبات البحث العلمي الجاد، هما مراكز البحوث والمجلات العلمية المحكمة. وفيما يخص مراكز البحث فقد أصدر معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة قائمة قبل سنتين، توضح مراكز ومعاهد البحوث في الجامعات السعودية التي كانت المفاجأة بأن عددها يبلغ 160 مركزًا ومعهدًا بحثيًّا. وتزداد المقدرة البحثية المتوافرة للمنظومة التعليمية في المملكة مع الوضع في الاعتبار المراكز البحثية التابعة لكل من شركة أرامكو ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية.
وفيما يخص المجلات العلمية المحكمة التي تصدر عن الجامعات السعودية، التي تخصص أكثر من نصف محتواها لنشر البحث العلمي الموثق بالبيانات والإحصاءات، فقد قام الأستاذ الدكتور سالم السالم المحاضر بكلية علوم الحاسب الآلي والمعلومات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بنشر بحث مميز قبل أربعة أعوام بعنوان «المجلات العلمية المحكمة في الجامعات السعودية»، أورد فيه أن الجامعات السعودية يصدر عنها 51 مجلة علمية محكمة.
وعليه فالمملكة تتوافر لديها أهم رافدي البحث العلمي، هما مراكز البحوث والمجلات المحكمة، ولكن - للأسف - يبدو أنه لم يتم استغلالهما بالشكل المطلوب، وهو الأمر الذي جاءت الرؤية لتصحيحه من خلال مبادرة إنشاء جامعات تطبيقية.
مبادرات تنمية القدرات البشرية لرؤية المملكة 2030، التي يشرف على تنفيذها صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، سوف تنقل منظومة التعليم والتدريب في المملكة نحو أفق تنافسي عالمي، يكون البحث العلمي أهم استراتيجياتها. والحمد لله أن المملكة قادرة على تحقيق ذلك، وهي التي استثمرت بسخاء في ابتعاث الآلاف من طلبتها وطالباتها إلى أرقى الجامعات العالمية؛ ليعودوا مؤهلين للعمل بروح وطنية جادة لرفعة ومجد الوطن.