عبدالوهاب الفايز
والآن الأزمة أنشبت أظفارها، والمجتمعات الحيوية تعترف بمشاكلها، ثم تشخصها بدقة وتتفق على ضرورة حلها، وهذا ما فعلناه: اعترفنا أن لدينا مشكلة (تضخم في النفقات الحكومية) لن تستوعبها مواردنا المالية في السنوات القليلة القادمة مما يتطلب إجراءات وخطوات مؤلمة!
ثمة أمور فرضتها الأزمة ولن نسيطر عليها وهذه نتركها لتدبير الله ومشيئته. المهم تدبر الأمور التي بيدنا ونستطيع التأثير فيها. مما بيدنا ترشيد النفقات ورفع كفاءة الأداء الحكومي، فالإيرادات المتراجعة حقيقة علينا الاستعداد لها بالتفكير الإيجابي. لدينا فرص لم نستثمرها بسبب الرخاء المالي، بالذات فرص توسيع مشاركة شبابنا في سوق العمل والتجارة.
الذي يقلقنا الآن هو وضع شبابنا الذين سيجدون أنفسهم بلا عمل، بالذات الذين مضى عليهم سنوات ينتظرون الفرصة، أو الذين سوف يتخرجون في جامعاتنا هذا العام ونفوسهم مشحونة بالرغبة للعمل والانطلاق في مشروع بناء الذات وبناء بلادهم. هذا الأمر بيدنا وضع الحلول التي تعالجه وتكون مساراً بعيد المدى لخفض نفقات الحكومة.
دور الحكومات في الأزمات يصبح الحاسم والضروري الذي يجعل مسؤولياتها كبيرة. الحكومة واجبها الآن التدخل القوي الواسع في سوق العمل لتكون أكثر فاعلية و(جرأة) لإيجاد الوظائف. القطاع الخاص يفكر بتقليص الوظائف وهذا سلوك طبيعي في الأزمات وهي غريزة البقاء حتى يصمد ويحافظ على الحد الأدنى من قوته. وغريزة البقاء للكيان الكبير (الدولة) هي التي تدفع الحكومة لممارسة حقها الطبيعي للتدخل في الاقتصاد وتقديم الحلول السريعة التي تستوعب الأزمة، حتى لو كانت صعبة.
الحكومة لديها نفقات مرتفعة في بند الأجور (أكثر من 500 مليار ريال)، ولديها التزام بحماية الرواتب مهما كان الثمن، وضخت 177 مليار ريال لاحتواء التداعيات الأولى للأزمة، وهذه لن تدوم. على المدى البعيد الحل الأفضل الاتجاه إلى إنشاء الشركات الوطنية القيادية لأجل توفير الوظائف في قطاعات حيوية ناشئة ربما لن يقبل عليها القطاع الخاص لارتفاع مخاطرها. هذه الشركات لا تستهدف الأرباح الضخمة، بل الحصول على هامش ربح معقول يضمن لها الاستدامة المالية والاستقرار في جودة الخدمات. أيضاً تقوم مشاريعها بالمشاركة بين القطاعين الخاص والثالث. وهذه المشاركة الثلاثية هي الأسلوب الأمثل لتقديم الخدمات التي يحتاجها الناس، وهو النموذج الذي تطرحه المدرسة الإنسانية في الاقتصاد في القرن الواحد والعشرين والتي تهدف إلى تكوين رأس المال الاجتماعي. وأبرز ما يستهدفه هذا التوجه هو إدخال الناس (المستهلكين) في إدارة وتقديم الخدمات حتى يعرفوا تكلفتها الحقيقية. كذلك هذه الشركات يفترض أن تعمل على تحقيق هدفين إستراتيجيين ضروريين للتنمية وللأمن الوطني. الهدف الأول، أن تتجه إلى القطاعات (ذات العمالة الكثيفة) التي ظلت مشكلة متعددة السلبيات، وهذه مجالاتها كثيرة والمختصون يعرفون أولويات ترتيب هذه القطاعات. في السابق خلل سوق العمل يضع الحكومة في الموقف الصعب مع الناس. كانت هناك قوى محلية وخارجية تقاوم أية إصلاحات وتغييرات حكومية كبيرة لتعديل أوضاع سوق العمل والحد من توسع (استقدام العمالة غير الماهرة)، والتي نعرف يقيناً أنها سيطرت تقريباً على تجارة التجزئة وتسويق المنتجات الغذائية، وغيرها.. وهذه حصة خسرها القطاع الخاص، وحدت من دخول شبابنا لمجال التجارة. الهدف الثاني، التركيز على إنشاء الشركات التي (تستثمر فرص العمل التي تولدها الحقبة الرقمية). هناك مجالات خدمات تطبيقات التوصيل الإلكترونية، وفي هذه الأزمة رأينا شبابنا يثبتون نجاحهم ورغبتهم في العمل. تطبيقات التوصيل ستكون عصب التجارة الإلكترونية. أيضاً الشركات التي تقدم خدمات التواصل مع الجمهور call center. هذه ضرورية للخدمات الحكومية والخاصة، وضرورية لاستعادة الوظائف التي هاجرت نتيجة توجه القطاع الخاص لخفض النفقات. الآن الشركات التي تعمل على تنظيم وتقديم خدمات الاجتماعات والمؤتمرات مطلوبة، وتجربة الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) الناجحة تقدم نموذج تشيل حي، ومشروعاتها تشكل نواة شركة مساهمة كبيرة. أيضاً الخدمات البلدية تحتاج الشركات لإدارة المدن، والخدمات الرقمية ترفع كفاءة الإشراف والمتابعة وتخفض تكلفتها. قيام هذه الشركات يتيح نقل الوظائف من الحكومة، وإدخال وظائف جديدة تستوعب العاطلين، وهذا يخدم تحريك القوة الشرائية للناس، وأيضاً يخدم إنعاش الاقتصاد. لكي تنجح هذه الشركات، تحتاج دعمها بالموظفين الحكوميين مع تحمل رواتبهم الأساسية ورفع مهاراتهم لمدة من الزمن حتى تقوى وتستقر مالياً. طبقاً لتقديرات (سدايا)، القيمة المضافة للاستثمار في الذكاء الصناعي والبيانات يتوقع أن يوفر في السنوات القادمة (إيرادات إضافية بما يقارب 40 مليار ريال). هذه تقديرات متحفظة وأقل من الطموح!
وللحديث بقية.